في زمن تتسارع فيه أدوات التكنولوجيا لتمد نطاقها إلى كل المجالات، وصولاً إلى الفن، وجدت الأغنية العربية نفسها اليوم «مخترقة»، في ظل ثورة جديدة تعيد تشكيل الفن والذائقة عن طريق الذكاء الاصطناعي.

فعلى امتداد السنوات الأخيرة، تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة مساعدة في التوزيع و«المكساج»، إلى مؤثر مباشر في صناعة الكلمات وتوليد الألحان، بل واستنساخ أصوات أشهر المطربين العرب، الأحياء منهم والأموات، بصورة يصعب أحياناً على الأذن تمييزها. فمن أغنية لأم كلثوم «تشدو بها» خوارزمية حديثة، إلى مقاطع كليبات رقمية من دون ممثلين، وصولاً إلى مشاريع فنية عربية وغربية كاملة تنتج دون أي أدنى لمسة بشرية، يتفاقم الحضور الاصطناعي في فضاء إبداعي وصف تاريخياً بأنه «ابن العاطفة والانفعال والذاكرة الجماعية».. فهل يعني ذلك أن المتلقي أمام ثورة فنية تعيد تشكيل الذائقة؟ أم تنتظره حقبة جديدة سيتم خلالها استبدال روح وجوهر الإنسان بنسخ رقمية مصقولة خالية من الإحساس؟

التجربة العربية

بدأت القصة عربياً منذ نحو عامين، حين أثار الملحن المصري عمرو مصطفى ضجة باستخدام الذكاء الاصطناعي في إنتاج أغنية بصوت «أم كلثوم»، دون الرجوع إلى ورثتها أو المؤسسة المالكة لأرشيفها. وبينما رأى البعض في التجربة «عودة رمزية للصوت الذهبي»، اعتبرها آخرون تعدياً على الذاكرة الجماعية وانتهاكاً لأخلاقيات الفن، لكن السؤال الأهم الذي ظهر حينها: هل يمكن محاكاة العبقرية؟ أم أن ذلك نوع من الانتحال فحسب؟

بعد ذلك، توالت التجارب وصولاً إلى العام الماضي، حين قدمت المغنية التونسية لطيفة أربعة كليبات من ألبومها «مفيش ممنوع» باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد المشاهد والخلفيات، معلقة آنذاك: «التقنية لا تخلق الإحساس، لكنها توسع المشهد وتمنح الصورة بعداً آخر».

وفي الأردن، أطلقت فرقة «آخر زفير» كليب أغنيتها «ارتوازي» بتقنية الذكاء الاصطناعي، ليكون أول كليب روك عربي ينتج بالكامل باستخدام الخوارزميات، فيما جاءت الصور والمشاهد أقرب إلى حلم متحول، بلا منطق واضح، يعكس مشاعر الغربة والانكسار بلغة بصرية جديدة.

وفي المغرب، سلك الفنان الشاب Mehdayev Brayen الملقب «بالحكواتي العصري» مدى أبعد، عبر تصميم مشروع موسيقي باستخدام التكنولوجيا الحديثة، خصوصاً الذكاء الاصطناعي، سواء في مرحلة كتابة النصوص أو تركيب الموسيقى أو تصميم الكليب بالكامل، مقدماً تجربة حكواتية تستحضر التراث الشعبي في فضاء رقمي بحت.

أما في يونيو الماضي، فأصدر المغني السعودي راشد الماجد أغنية «أنا استسلمت»، المصورة بالكامل بالذكاء الاصطناعي، إذ تم بناء المشاهد رقمياً، لتظهر كأنها مشاهد رومانسية وحالمة، لكن التجربة وإن بدت أنيقة بصرياً ودون «روتوش»، فقد جاءت خالية من الروح.

أصالة مشكوك فيها

على هامش هذه التجارب، انتشرت على المنصات الرقمية، مقاطع موسيقية ولدتها خوارزميات ذكاء اصطناعي، على أنها «بصوت» مطربين عرب معروفين مثل فيروز وكاظم الساهر وراشد الماجد وحسين الجسمي وعبدالحليم حافظ وغيرهم. وأظهرت هذه المقاطع قدرة كبيرة على تقليد النبرة والأداء وحتى طبقة الصوت، دون أن يكون للفنان أي دور فعلي في التسجيل، خصوصاً أنها تقدم «أغنية جديدة كلياً بصوت فنان راحل»، أو تعيد توزيع أغنية أجنبية بأسلوب صوتي عربي مزيّف.

ورغم أن هذه المقاطع سجلت مشاهدات كبيرة، وأثارت فضول جمهور موسع من الباحثين عن الترفيه، إلا أن النقاد حذروا من «نمو ظاهرة الانتحال الصوتي»، التي تضع أخلاقيات الفن والحقوق الفكرية على المحك، خصوصاً أن صوت الفنان ليس مجرد تردد صوتي، بل امتداد لشخصه وتجربته، وهو ما يجعل «غناء الآلة بصوته» أقرب إلى محاكاة بلا ذاكرة.

شراكة صحية

أسئلة بالجملة تطرحها قدرة الذكاء الاصطناعي اليوم على إنتاج أغنية تحاكي «الوجع الإنساني»، وهل يكفي أن يكون الصوت جميلاً حتى نصدق الشعور، ومن يملك الحق في استخدام «أصوات الراحلين» وحماية الفنان من قرصنة صوته؟

فالذكاء الاصطناعي منح الموسيقى أدوات جديدة وفرصاً للخيال، ليحسم معضلة فنية عظيمة وهي عبء الإنتاج، لكنه انتزع في الوقت ذاته لحظة الحيرة وأنين النجوى وتنهيدة المقطع الأخير، لأن الفن في جوهره تجربة ذاتية محضة لا يمكن برمجتها بالكامل، حتى وإن شهدنا مستقبل شراكة صحية بين الفنان والخوارزمية.

ولكن يبقى لألق الأغنية نبرتها الإنسانية التي دافع عنها 61% من الشباب العربي، مؤكدين في استطلاع رقمي موسع قبولهم باستخدام تقنية AI في الموسيقى بشرط الإفصاح عنها، بينما أكد 30% أنهم يشعرون بأن الفن يتحوّل إلى «مؤثر صوتي فاقد للروح».

جدل واسع

 

خاض المطرب اللبناني عاصي الحلاني، تجربة مغايرة في كليب أغنيته «أشتكي لله»، الذي صممت كل عناصر بيئته البصرية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت الذي اعتبر البعض العمل نقلة جمالية فريدة، أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً بسب غياب البصمة الإنسانية في عالم من «التصميم الخوارزمي البارد».

• الذكاء الاصطناعي تحول من أداة مساعدة في التوزيع و«المكساج»، إلى مؤثر في صناعة الكلمات والألحان.

شاركها.
Exit mobile version