تعيش إسرائيل السنوات الأخيرة لحظة تاريخية فارقة، تُنذر بتحولات عميقة في بنيتها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولم تعد الأزمة مقتصرة على حرب غزة المستمرة أو حروب إسرائيل في المنطقة أو الاحتجاجات الداخلية، بل تجاوزتها إلى أزمة بنيوية تهدد قدرتها على الصمود.

وقد حذر أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب عيران يشيف عبر القناة الـ12 الإسرائيلية من أن المسار الحالي هو “طريق يؤدي إلى دولة ضعيفة، إن لم تكن فاشلة”.

لم يكتفِ يشيف -الذي يُعتبر من أبرز الخبراء الإسرائيليين في العلاقة بين الأمن والاقتصاد- بالتحذير، بل طرح لأول مرة تقريبا فكرة الإضراب الاقتصادي العام باعتباره أداة شرعية لمواجهة الانهيار الذي يقود إليه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر تحالفاته السياسية وإدارته للحرب.

وحدد يشيف 5 حقائق رئيسية -من بين حقائق كثيرة- تصف ما حدث للاقتصاد الإسرائيلي عقب الانقلاب القضائي والحرب في غزة، والتي تُثبت ما يطرحه حول الانحدار للدولة الفاشلة بسبب نتنياهو، وهي كما يلي:

لقاء ويتكوف (يسار) ونتنياهو وسط تحذيرات داخلية من تراجع الدعم الأميركي لإسرائيل (الصحافة الإسرائيلية)

الهجرة العكسية وهروب العقول

تشير تقارير وزارة المالية الإسرائيلية إلى أن عام 2024 شهد أعلى نسبة مغادرة للمهاجرين الجدد منذ عقدين، ونقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في تقرير أن 8300 موظف في قطاع التكنولوجيا غادروا إسرائيل ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوليو/تموز 2024، على نية البقاء خارج البلاد لمدة سنة على الأقل.

هذا النزيف البشري -بحسب يشيف- يهدد قطاع التكنولوجيا الفائقة، الذي يوظف أكثر من 400 ألف شخص ويشكّل ثلث إيرادات ضريبة الدخل، وإن غياب عشرات الآلاف منهم سيعني ضربة قاتلة لاقتصاد يعتمد على الابتكار.

التكلفة الاقتصادية لاحتلال غزة

يبدو الاحتلال الطويل لغزة أشبه بـ”ثقب أسود” يبتلع الاقتصاد الإسرائيلي، وقدر بنك إسرائيل -حسب تقرير نقلته صحيفة “ذا ماركر” الاقتصادية يوم 26 مارس/آذار 2025- أنّ الميزانية المخصّصة للحرب 2023–2024 بلغت 135 مليار شيكل (44 مليار دولار تقريبا) إضافية فوق الميزانية الأصلية.

ونقلت صحيفة إسرائيل هيوم، في 28 مايو/أيار 2025، عن بنك إسرائيل أن تكلفة الحرب حتى نهاية 2025 تقدر بـ250 مليار شيكل، تشمل أيام التعبئة، والأسلحة، والوقود، وغيرها من المصاريف المباشرة. وتشير التوقعات إلى أن الرقم قد يتجاوز 300 مليار شيكل في سيناريوهاته التحذيرية. وعلاوة على ذلك، بلغت تكلفة يوم واحد من القتال نحو 425 مليون شيكل.

هذه الأرقام تكشف أنّ تكلفة الحرب السنوية وحدها تعادل نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، في وقت لم يتجاوز فيه نمو الاقتصاد 0.9% في 2024، وبذلك، تتحول غزة إلى عبء اقتصادي يبتلع الموارد، ويضع إسرائيل على حافة أزمة مالية عميقة، في ظل تخلي الشريك التجاري الأكبر (أوروبا) عن إسرائيل، في ظل العقوبات المتلاحقة التي ارتبطت بشكل مباشر بالحرب على غزة.

أزمة الجيش ونقص القوى البشرية

الجيش، الذي لطالما قُدّم كـ “جيش الشعب”، يعاني اليوم من أزمة غير مسبوقة في القوى البشرية. فالحرب الطويلة في غزة دفعت إلى تعبئة مئات آلاف جنود الاحتياط، في حين يرفض الحريديم الخدمة العسكرية، مما أدى إلى نقص متزايد يُقدّر بعشرات الآلاف من الجنود.

ونقل موقع “تايمز أوف إسرائيل”، في 26 مارس/آذار 2025، أن نسبة كبيرة من مجندي الاحتياط يترددون أو يرفضون الاستجابة للاستدعاءات، وسط تأزم معنوي وضغوط اقتصادية واجتماعية، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الجيش على مواصلة الحرب الطويلة.

تترافق هذه الأزمة مع مؤشرات مقلقة، مثل ارتفاع في حالات الانتحار داخل الجيش، وتراجع الحافزية لدى الضباط الشباب، وتنامي خطاب “جيش المرتزقة” في النقاش العام الإسرائيلي.

تراجع التصنيف الائتماني والاستثمار

خلال العامين الماضيين، خفّضت وكالات التصنيف الدولية مثل “موديز” و”ستاندرد آند بورز” التصنيف الائتماني لإسرائيل أكثر من مرة. صحيفة كالكاليست الاقتصادية العبرية أوضحت أنّ استمرار الحرب والسياسات المالية الحالية يضع إسرائيل على مسار تخفيض إضافي، مما يرفع كلفة الاقتراض ويضعف الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

ونقلت صحيفة غلوبس الاقتصادية المحلية في الثامن من يوليو/تموز 2025 أن موديز أكّدت التصنيف الائتماني لإسرائيل عند “بي إيه إيه 1” (Baa1) أدنى مستوى للاستثمار، لكنها أبقت التوقع سلبيًا، محذّرة من أن “إمكانية خفض التصنيف ما زالت واردة” نتيجة التوترات الأمنية والضغط المالي المستمر، مع توقعات أن تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى نحو 75% في المتوسط بسبب الإنفاق العسكري المتزايد ونمو أبطأ للاقتصاد.

تراجع الدعم الأميركي

مع أنّ الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 23 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل بين 2023–2025، فإن توجه إدارة ترامب الثانية يقضي بتقليص الدعم إلى حدود 10% من هذا الرقم، وفق ما نقله يشيف عن مصادر مقربة من وزارة المالية الإسرائيلية.

وحسب موقع مكور ريشون في 14 مايو/أيار 2025، فإن الاعتماد الأمني على المساعدات الأميركية يحد من قدرة إسرائيل على التوسع إستراتيجيا، لأن معظم الأموال يتم توجيهها مرة أخرى إلى الصناعة الأميركية، في حين تفرض قيودا على التطوير المستقل وتصدير الصناعات العسكرية الإسرائيلية.

واعتبر يشيف أن التحول في السياسة الأميركية يعكس ضغوطا داخلية متزايدة من القاعدة الانتخابية الجمهورية، مما يضع إسرائيل أمام خطر الاعتماد على ذاتها ماليا وعسكريا.

نتنياهو بين المقامرة والتحالفات

لا يمكن قراءة المشهد الإسرائيلي الراهن بمعزل عن البعد السياسي والشخصي لنتنياهو، فمنذ عام 2019، عجز رئيس الوزراء عن بناء أغلبية مستقرة، وتورط في ملفات فساد، ومع انسداد الأفق أمامه، لجأ إلى تحالف مع قوى دينية متشددة مثل “شاس” ويهودات هتوراه” والصهيونية الدينية.

هذا التحالف، الذي يصفه يشيف بأنه “خليط بين حكم فردي هش وقوى معادية للديمقراطية والحداثة”، عمّق الطابع الهجين للنظام الإسرائيلي بين نزعة سلطوية وبين سيطرة قوى طائفية.

وفي هذا السياق، يتصرف نتنياهو كمقامر سياسي يرفع الرهان كلما ضاقت به الخيارات، معتمدا على إطالة أمد الحرب في غزة كوسيلة لتأجيل الانتخابات المقررة عام 2026، في حين يحمّل الجيش والأجهزة الأمنية المسؤولية عن الفشل لإبقاء نفسه في موقع القيادة.

ويؤكد يشيف أن “إسرائيل تسير في اتجاه يجعلها دولة ضعيفة وربما فاشلة؛ فمن هذا المنظور، لا تبدو الحرب في غزة مجرد مواجهة عسكرية، بل أداة سياسية للبقاء، حيث يتيح استمرارها لنتنياهو فرصة لتأجيل الانتخابات وترحيل الأزمات الداخلية”.

تترافق هذه التحديات مع ردود فعل داخلية وخارجية متصاعدة: ففي الداخل، تتنامى دعوات الإضراب الاقتصادي العام كأداة شرعية لمقاومة الانهيار، إلى جانب تصاعد الاحتجاجات الشعبية، والتي كان أبرزها احتجاجات أهالي الأسرى المتكررة خلال شهر أغسطس/آب الجاري وانضمت إليها العشرات من المؤسسات والشركات والبلديات.

وأشار المختص في الشؤون الإسرائيلية عصمت منصور -في حديث مع الجزيرة نت- إلى أن صعود نتنياهو للحكم والأزمات اللي خلفها بسبب طول فترة حكمه أدت الى هذه التحولات العميقة التي تشهدها إسرائيل حاليًا.

وأضاف أن هذه السياسة وفق القراءات الإسرائيلية، ووفق تحذيرات الخبراء والإستراتيجيين في إسرائيل، ستؤدي إلى تحويل إسرائيل لدولة منبوذة عالمًيا، معزولة، ضعيفة داخليا، وعلى حافة حرب أهلية، وصراعات داخلية، وباتت مكانتها التي بنتها على التكنولوجيا المتقدمة والمبادرات والاقتصاد الحر والعلاقة مع الغرب والتماهي معه مهددة.

على حافة الفشل

استمرار سياسات نتنياهو سيدفع إسرائيل إلى خطر غير مسبوق، بحيث تصبح دولة لا تستطيع تمويل خدماتها أو ضمان أمنها. وكما يلخص يشيف “لقد وصلنا إلى وضع لم تعد فيه الموارد البشرية والمالية تكفي للحفاظ على مستوى المعيشة أو لمواجهة العبء الأمني. هذا هو الخطر الوجودي بعينه”.

ويرى منصور أن نتنياهو يشن حربا على صورة إسرائيل القديمة، ويهدد بتحويلها لدولة فاشلة، وهذا سينعكس على تحالفاتها واقتصادها واستقرارها، وعلى حالة التناغم بين مكوناتها، بما تملكه من مكابح من الديمقراطية والتعددية التي تنهار تباعًا أمام الصدام الحتمي الذي تروج له سياسات نتنياهو.

من جهته، اعتبر المختص بالشؤون الإسرائيلية محمد القيق أن نتنياهو ذهب للحرب في غزة للحصول على صورة الانتصار في الداخل والخارج، ففتحت عليه جبهات كثيرة و ليست جبهة عسكرية فقط، فالجبهة الثقافية والثورية الشعبية التي بنيت في عقلية المجتمع العربي والإسلامي وفي الساحة الدولية نسفت الردع الإسرائيلي.

وأضاف القيق للجزيرة نت: “أما الأمن الداخلي الذي انعكس على أهم مفصل في البلاد وهو الثقة بالاقتصاد، فقد سقط أمام حرب لم تتوقف منذ عامين ورئيس حكومة يقول إن إسرائيل ستتوسع، وهذا التوسع يحمل المواجهة والحروب”.

شاركها.
Exit mobile version