تتصاعد الضغوط على حزب الله اللبناني عقب التطورات الأخيرة في منطقة جنوب لبنان، في ظل تعنت إسرائيلي واضح بشأن نزع سلاح الحزب كشرط أول للانسحاب من الأراضي المحتلة، ووسط دعم أميركي معلن لهذا التوجه، ومع غياب أي ضمانات تكفل وقف الاعتداءات الإسرائيلية.

ومن أجل ذلك، يواجه حزب الله تحديات غير مسبوقة داخليا وخارجيا، سواء على مستوى قدراته العسكرية بعد خسائر الحرب الأخيرة وفقده العديد من قادته وعتاده العسكري، أو في سياق الضغوط المفروضة عليه من أجل اندماجه ضمن منظومة الجيش اللبناني.

وأمام هذا المشهد الذي تغيب فيه الحدود الفاصلة بين الفعل والفعل المقابل، تتباين تقديرات الخبراء بشأن جاهزية حزب الله لمواجهة هذه الضغوط العسكرية والسياسية، وكذلك بشأن خياراته المستقبلية، سواء المتعلقة بقدرته على شن الحرب أو الاكتفاء بالموقف الدفاعي المفروض عليه.

وفي هذا التقرير، نستعرض وجهات نظر 3 خبراء -تحدثوا للجزيرة نت في تصريحات منفصلة- بشأن هذه القضايا التي قد تكون مؤثرة في أبعاد الصراع بالمنطقة خلال الأيام القادمة.

 هل حزب الله جاهز للمواجهة؟

مدى قدرة الحزب على المواجهة كانت أبرز نقاط الخلاف بين الخبراء، إذ يرى الكاتب السياسي بشارة شربل أن “حزب الله يعيش اليوم مرحلة تراجع لم يشهد مثلها في تاريخه منذ 4 عقود”.

وعن أسباب ذلك التراجع، يفصّل شربل ذلك بأن الحزب فقد دوره الإقليمي المهيمن وقراره المستقل في قضايا السلم والحرب، وكان ذلك نتيجة الهزيمة العسكرية الكبيرة بعد مغامرة “حرب الإسناد” التي أعقبت عملية “طوفان الأقصى” حسب تعبيره.

ويضيف أن حزب الله فقد نخبة قادته وقوته الأساسية، ولم يعد بإمكانه النهوض بسهولة، مما يجعله عاجزا عن شن حرب جديدة على إسرائيل، على حد وصفه.

لكن هذا الرأي يختلف معه مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير هادي قبيسي، إذ يؤكد أن حزب الله رغم الضغوط والتحديات فلا يزال متمسكا بقدراته العسكرية “بل أثبت قدرة عملية على منع الاحتلال الإسرائيلي من التقدم، ويستند في ذلك إلى دعم جمهور واسع، ولم تظهر عليه أي مؤشرات تراجع أمام التوسع الصهيوني”.

ويشير قبيسي إلى أن قيادة الحزب أعلنت رسميا جاهزيتها لمواجهة أي فرض للحرب على لبنان، مؤكدا أن “المقاومة شهدت نموا وترسيخا غير مسبوقين في خيارها الدفاعي، وتمكنت من معالجة إشكاليات ما قبل الحرب الأخيرة”.

وكان الإعلام الحربي التابع لحزب الله بث اليوم الأربعاء مقطع فيديو ظهر فيه الأمين العام نعيم قاسم بالزي العسكري، وأُرفق الفيديو مقتطفات من خطابه الأخير الذي شدد فيه على أن الحزب لن يسلم سلاحه، وذلك بعد أكثر من أسبوعين على قرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح وبسط سيادة الدولة على كافة الأراضي.

ومن منظور ثالث يقف بين الرأيين السابقين، يذهب الخبير العسكري العميد حسن جوني إلى أن قوة حزب الله لا تزال حاضرة في المشهد اللبناني رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها نتيجة العدوان الأخير.

وأضاف جوني أنه رغم اغتيال عدد كبير من قادة الحزب فإن الهيكلية التنظيمية والتفاعل الجماهيري الواسع للحزب ما زالت قائمة، مشيرا إلى الطابع الأيديولوجي العميق للحزب، متوقعا استمرار تمسكه بسلاحه ورفض الحزب التخلي عنه، خاصة في ظل غياب ضمانات إسرائيلية وانسداد أفق الحلول المطروحة.

الاستسلام للضغوط

وخلال زيارة إلى لبنان، وجّه وفد أميركي عدة رسائل -قد تمثل ضغوطا على حزب الله- ولم تكن مقتصرة على الدعم المالي والعسكري، بل وضعت ملف سلاح حزب الله في صدارة الأولويات، معتبرة أن نزع السلاح خطوة “صعبة لكنها حاسمة” ترتبط بمستقبل علاقات لبنان الإقليمية وفرصه الدولية.

ويرى شربل أن الضغوط الإسرائيلية والأميركية وصلت إلى مرحلة تُفرض فيها شروط قاسية على لبنان، إذ تصر إسرائيل على البدء بنزع سلاح حزب الله قبل أي عملية انسحاب من التلال الخمس المحتلة، ومن دون تقديم أي ضمانات لوقف الغارات أو الاعتداءات، ويحظى هذا النهج بتأييد أميركي واضح.

وأمام هذه الضغوط، يبين الكاتب السياسي -في تصريحاته للجزيرة نت- أن “حزب الله بات في موقع الانكفاء، وليست لديه أية قدرات على المبادرة، ولم تعد لديه خيارات كثيرة يمكن أن يختار من بينها”.

وعلى النقيض من ذلك، يؤكد قبيسي أن خيار الاستسلام غير مطروح أمام الحزب، مبينا أن الضغوط الداخلية والخارجية لم تتمكن من زعزعة قناعة جمهور المقاومة الذي يرى في الصمود خيارا لا رجعة عنه.

ويشير مدير مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير إلى أن الحرب السابقة أظهرت قدرة حزب الله وجمهوره على المواجهة ومنع تقدم الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أن “حالة المقاومة اليوم تشهد نموا نوعيا في خيارها الدفاعي، مع استعداد دائم لخوض الحرب إذا فُرضت عليها”.

ويتفق جوني مع الرأي القائل إن هذا الحزب لن يستسلم بسهولة، مبررا ذلك بالمرتكزات الأيديولوجية والدينية الممتدة تاريخيا، إذ يُعد حزب الله حركة عسكرية أيديولوجية عميقة الجذور، مما يجعل إمكانية تراجعه أو استسلامه أمام الضغوط شبه مستحيلة، خاصة مع استمرار وجوده الجماهيري والتنظيمي الفاعل رغم الضربات التي تلقاها، حسب تعبيره.

القدرة على شن الحرب

وفي خطاب للأمين العام لحزب الله نعيم قاسم الاثنين الماضي، قال إنه لولا المقاومة لوصلت إسرائيل إلى بيروت مثلما وصلت إلى دمشق، مضيفا أن إسرائيل لم تتجاوز التلال الخمس التي احتلتها في الجنوب اللبناني خلال الحرب الأخيرة بسبب وجود المقاومة.

ولكن شربل لا يتفق مع هذا الخطاب، قائلا إن حزب الله اليوم غير قادر على شن حرب جديدة على إسرائيل، وذلك بعد فقدانه نخبة قادته وقوته الأساسية، وعدم قدرته على تعويض تلك الخسائر، في ظل تفوق إسرائيل العسكري والتكنولوجي، واستمرار الضربات القاسية التي تعرض لها الحزب.

ويرى أن أي محاولة من حزب الله لشن حرب جديدة على إسرائيل ستكون مستحيلة في ظل التقديرات العسكرية والسياسية الراهنة.

وهنا يأتي رد قبيسي على الرأي السابق بأن الحزب أعلن رسميا جاهزيته الكاملة، وأن المقاومة نجحت في ترميم قدراتها ومعالجة مكامن الخلل التي ظهرت قبل الحرب الأخيرة.

ويستند قبيسي في رأيه إلى خطاب ومواقف قيادة المقاومة التي أبدت استعدادا واضحا للرد على أي عدوان جديد، مبينا أن خيار الحرب يظل مطروحا وفق ظروف المعركة المفروضة، وأن الحضور الجماهيري يدعم هذه الجاهزية.

أما جوني فيقر بأن قدرة الحزب على شن حرب واسعة تراجعت بشكل ملحوظ، خاصة بعد استشهاد العديد من القادة وتدمير نسبة كبيرة من إمكانات الحزب العسكرية، إلى جانب صعوبة إعادة تغذية قدراته نتيجة تغير الأوضاع في سوريا وقطع شريان الإمداد الإيراني.

وفي التفاصيل، يميز جوني بين المبادرة الهجومية والدفاع عن الأراضي اللبنانية، حيث يبقى الحزب جاهزا لمقاومة أي اجتياح إسرائيلي تحت مظلة المقاومة، مع تحمل المسؤوليات الكبيرة التي تترتب على مثل هذه المواجهة.

مقاتلان من حزب الله يطلقان طائرة مسيرة باتجاه موقع إسرائيلي (مواقع التواصل)

الاندماج في الجيش اللبناني

وفي 5 أغسطس/آب الجاري، أقر مجلس الوزراء اللبناني حصر السلاح -بما فيه سلاح حزب الله- بيد الدولة، وتكليف الجيش بوضع خطة لإتمام ذلك في الشهر الجاري وتنفيذها قبل نهاية 2025.

واختلفت آراء الخبراء أيضا بشأن استعداد حزب الله للتجاوب مع هذا القرار، وكذلك إمكانية تطبيقه، فشربل يرى أن إدماج حزب الله في الجيش اللبناني أمر شبه مستحيل “نظرا للتركيبة الطائفية المعقدة وعدم إمكانية دمج مجموعات مذهبية مدربة ضمن المؤسسة العسكرية، فضلا عن تعارض الولاء بين حزب الله المستند إلى ولاية الفقيه في إيران، والجيش اللبناني الذي يشترط الولاء الوطني”.

وهنا يتفق قبيسي مع الرأي السابق بشأن عدم إمكانية إدماج مقدرات حزب الله في الجيش، لكنه يعود للاختلاف معه بشأن أسباب ذلك، إذ يرجِع ذلك إلى أن المقاومة تعتمد على التخفي والعمل غير الكلاسيكي، مما يمنحها هامشا من التحرك بعيدا عن قيود الدولة، ويجعل دمجها في الجيش اللبناني مقيدا سياسيا وعملياتيا.

ويستدل المتحدث نفسه -في حديثه للجزيرة نت- على ذلك بقيام الجيش اللبناني بتفجير ذخائر حصل عليها من المقاومة، معتبرا هذا دليلا على القيود التي تحد من قدرة الجيش على اتخاذ القرارات.

أما جوني، فيشير إلى أن فكرة دمج قوى المقاومة في الجيش كانت مطروحة ضمن إستراتيجية دفاعية متكاملة، تهدف إلى نقل هذه القدرات إلى إطار الدولة والأجهزة الأمنية، مضيفا أن الضغوط الأميركية وتسارع الأحداث تجاوزا هذه الإستراتيجية، ولم تعد مسألة الدمج مطروحة فعليا.

ويؤكد الخبير العسكري أن السلاح الإستراتيجي الذي يشكل خطرا على إسرائيل لن تقبل بوجوده ضمن الجيش اللبناني أو بين يدي حزب الله، وستعمل على تدميره كما فعلت مع الجيش السوري، في إطار إستراتيجية منع نشوء أي قوة تهدد الكيان الإسرائيلي.

ذخيرة صادرها الجيش اللبناني أخيرا (حساب الجيش على إكس)

من سيحمي الدولة؟

وعند سؤال الخبراء: من سيحمي لبنان إذا نجحت الضغوط في نزع سلاح حزب الله؟ وهنا استمر الخلاف في وجهات النظر على نحو حاد.

فشربل يخلص إلى أن حماية لبنان لا يمكن أن تتحقق عبر الجيش اللبناني أو المقاومة عسكريا، نظرا للفارق الكبير في القدرات بين إسرائيل ولبنان، بل يرى أن السلطة الشرعية وحدها هي القادرة -من خلال علاقاتها الدولية والإقليمية- على فرض القرار الوطني وحماية البلاد.

ويخالفه قبيسي هذا الرأي، مؤكدا أن التجربة التاريخية منذ عام 1948 أثبتت أن الجيش اللبناني تعرض لحظر التسلح والتقييد السياسي، ولا يملك حاليا الإمكانيات لمنع الاختراقات الإسرائيلية، مضيفا أن الجيش بحاجة إلى بناء قوة شاملة وتحرير من القيود السياسية لكي يتمكن من الدفاع الفعلي عن الوطن.

ويطرح جوني رؤية وسطية، مفادها أن الجيش اللبناني سيؤدي واجبه في حال وقوع اعتداء أو اجتياح إسرائيلي، وقد يستعين بجميع أبناء الفرق الوطنية كما هو متبع في معظم دول العالم عند التعرض لغزو خارجي.

لكنه يشير إلى أن موازين القوى قد تسمح للعدو الإسرائيلي بالاحتلال، من دون أن يتمكن من الاستقرار في المناطق المحتلة، حيث سيظل عرضة للعمليات العسكرية من الجيش أو غيره.

ويرى جوني -في ختام تصريحاته للجزيرة نت- أن شرعية الجيش الوطنية والدولية تمنحه مظلة دفاعية معقولة، وإن لم تكن مضمونة بالكامل بسبب تقاطع المصالح الدولية والدعم الأميركي لإسرائيل، لكنها تظل الحل الأخير المتاح أمام الدولة اللبنانية في الظروف الراهنة.

وبعض استعراض هذه الآراء بما فيها من اختلافات في الطرح والأسباب التي تستند إليها، سنجد أنها تعكس تباين الرؤى بين الإقرار بتراجع قدرات حزب الله وتضاؤل خياراته، وبين التمسك بخيار المقاومة والدفاع كبديل عن الاستسلام، وصولا إلى مقاربات وسطية تربط بين إمكانيات الحزب والجيش ضمن معادلة حماية الدولة اللبنانية، وكل ذلك وسط تعقيدات إقليمية ودولية متصاعدة.

شاركها.
Exit mobile version