على خلاف القمم السابقة، اتخذت قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عُقدت في مدينة تيانجين الساحلية طابعًا مختلفًا، إذ تحولت من مجرد اجتماع دبلوماسي إلى منصة رسائل سياسية ورمزية وازنة موجهة إقليميًا ودوليًا.

وسعت الصين في القمة إلى تقديم نفسها باعتبارها رائدة العالم المتعدد الأقطاب وزعيمة القوى غير الغربية ومركزًا للقوى الناشئة ضمن الجنوب العالمي، في مواجهة النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.

وقد تزامن انعقادها مع أكبر عرض عسكري تنظمه بكين في تاريخها الحديث -بمناسبة الذكرى الثمانين لانتصارها في الحرب العالمية الثانية- مع حضور لافت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، إلى جانب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وممثلين عن إيران ودول أخرى.

وهذا التزامن بين القمة والعرض العسكري، والدلالات السياسية لها، والصور التي خرجت منها خاصة وقوف الرئيس الصيني شي جين بينغ بين بوتين وكيم، كله أعطى هذا اللقاء أبعادًا تتجاوز البروتوكول.

ويسلط هذا التقرير الضوء على أبرز الدلالات السياسية، والرسائل الرمزية، ومغزى العرض العسكري وما رافقه من لقطات ورسائل إلى الداخل والخارج.

مشاركة رئيس الوزراء الهندي في قمة شنغهاي شكلت محور رسائل صينية هندية تجاه واشنطن (رويترز)

الهند في القمة

ربما من أكثر الرسائل السياسية اللافتة -في القمة- البيان واللقاء المشترك بين شي ومودي، والذي شدد على أن بلديهما “شريكان في التنمية لا خصمان” مع التأكيد على تهدئة الحدود وفتح مسارات للتبادل والاستثمار.

وهي صياغة بدت مقصودة للإشارة إلى خفض التوتر بين البلدين، وربطت توقيتها برفع واشنطن الرسوم الجمركية بنسبة 50% على البضائع الهندية، وهو الأمر الذي نظر إليه باعتباره إهانة وتغيرا في مسار العلاقات بين نيودلهي وواشنطن.

وقد دعا هذا القرار نيودلهي إلى إعادة النظر في العلاقات مع واشنطن التي كانت تعتبرها حليفا إستراتيجيا وشريكا في مواجهة النفوذ الصيني وفي الحفاظ على أمن منطقة المحيطين الهندي والهادي، وسوقا ناشئة ضخمة.

ورأت صحيفة نيويورك تايمز أن ترامب بدد ما استثمره أسلافه في بناء علاقات مع الهند، وقالت إن الرؤساء الأميركيين المتعاقبين استثمروا على مدى 3 عقود رأس مال دبلوماسيا هائلا لبناء صداقة مع الهند.

وقد دعت سياسة ترامب الهند إلى إعادة النظر في علاقتها ببلاده، والبحث عن مسارها الخاص وشركائها الذين قد تجدهم في الصين وروسيا، وربما اختار رئيس وزرائها اللقاءات مع شي على هامش منظمة شنغهاي للتعاون، لتوجيه رسائل إلى الولايات المتحدة أهمها رغبتها في فتح صفحة جديدة من العلاقات.

وجاءت الإشارة الثانية من منصة القمة ذاتها، والتي استثمرها الرئيس الصيني للتأكيد على رؤية لنظام عالمي تعددي حقيقي بمشاركة فاعلة من الجنوب العالمي، وتوجيه انتقادات للهيمنة الغربية، في إشارة فهمت على أنها خطاب عن البديل للنظام الدولي.

أبرز الرسائل واللقطات

انعقدت القمة الـ25 لمنظمة شنغهاي للتعاون، خلال الفترة ما بين 31 أغسطس/آب وأول سبتمبر/أيلول 2025، واختيار هذا التوقيت لم يكن مصادفة، إذ انتهت القمة قبل يوم واحد فقط من الاحتفالات الكبرى في بكين بذكرى النصر في الحرب العالمية الثانية، حيث احتشد المشاركون لاحقًا في بكين في تلك الذكرى، مما منحها بُعدًا رمزيًا إضافيًا ربط بين الماضي والحاضر، وبين السياسة والدبلوماسية من جهة، والذاكرة الوطنية الصينية من جهة أخرى.

ومن ناحية المكان، حمل اختيار تيانجين تحديدًا، وليس بكين أو شنغهاي لعقد القمة، رسالة سياسية واضحة، فالمدينة عرفت تاريخًا طويلًا من النفوذ الأجنبي عبر العقود، ويمثل احتضانها قمة مجموعة شنغهاي رمزًا واضحًا لتجاوز الماضي الاستعماري وإبراز صورة الصين كقوة تمهّد لبناء نظام عالمي جديد بعيدا عن الهيمنة الغربية.

كذلك، تعرف مدينة تيانجين بتاريخها الطويل في التجارة والانفتاح، في إشارة رمزية تتجاوز البعد التقليدي بأن القمة لا تعني فقط الأمن والسياسة، بل مستقبلًا اقتصاديًا مفتوحًا.

الرئيس الصيني يتوسط الزعماء الذين شهدوا العرض العسكري (رويترز)

وحفلت قمة تيانجين بالصور واللقطات الرمزية التي حملت دلالات لا تقل أهمية عن التصريحات نفسها، فقد بدا واضحًا أن ترتيب الجلوس واللقاءات الثنائية جاء محسوبًا، حيث جلس شي في المنتصف محاطًا ببوتين ومودي، في صورة أرادت بكين من خلالها الإيحاء بقدرتها على جمع خصوم الأمس في مظلة واحدة.

ويمكن الفهم أيضاً من الصورة أن الصين ترى نفسها مركز الثقل في أي هندسة سياسية آسيوية مقبلة. كما أن المصافحة الطويلة بين شي ومودي لفتت الأنظار، خاصة أنها الأولى من نوعها منذ أزمة وادي غالوان في يونيو/حزيران 2020.

ولم تخلُ القمة من مشاهد أثارت الجدل والسخرية، فقد أبرزت صحيفة إنديا تايمز مقطع فيديو يُظهر مودي وبوتين يمران بجوار رئيس وزراء باكستان شهباز شريف من دون أي تفاعل واضح معه، مما أشعل مواقع التواصل، حيث قارن معلقون الموقف بالمثل الشعبي الهندي “يُعامل كالهيل في البرياني” في إشارة إلى التجاهل المقصود.

وفي جانب آخر أكثر ابتكارًا، خطف “Xiao He” (وهو روبوت مُبرمج للتواصل بعدة لغات) الأضواء في مركز الإعلام، حيث قدّم خدماته للصحفيين بلباقة وفعالية، وتحوّل إلى أيقونة صغيرة للقمة، ورمزاً للتقنية الإنسانية في خضم الأحداث السياسية.

قمة تيانجين شهدت احتشادًا نادرًا لقوى “الجنوب العالمي” (الأوروبية)

الحضور والغياب

شهدت قمة تيانجين احتشادًا نادرًا لقوى “الجنوب العالمي” إذ جمعت أكثر من 20 زعيمًا، بالإضافة إلى ممثلين رفيعي المستوى عن الأمم المتحدة.

وجعل هذا الزخم القمة تُصنَّف كأكبر اجتماع في تاريخ منظمة شنغهاي للتعاون، في دلالة واضحة على مساعي بكين لتوسيع قاعدة المنظمة خارج حدود آسيا الوسطى، وتحويلها إلى منصة عالمية بديلة.

وما لفت الأنظار أيضًا هو الغياب اللافت لبعض القادة، كالرئيس الإندونيسي الذي حضر بدلًا عنه وزير الخارجية سوجيونو، كما غاب زعماء أو متحدثون بارزون من الغرب وحلفائه الآسيويين.

أما على مستوى الخطابات، فقد برزت دلالات مهمة بشأن مستقبل العلاقات داخل المنظمة، حيث شدد شي على مفهوم “التعددية الحقيقية” وبناء نظام دولي أكثر عدالة ورفض “الهيمنة” ومن جانبه حرص مودي على تأكيد الشراكة والتنمية المشتركة بدلًا من لغة المواجهة، مما عكس حرص الطرفين على إبراز نقاط التلاقي بدلًا من تضخيم الخلافات.

الرئيس الصيني (يمين) أثناء ترحيبه بنظيره الروسي خلال قمة شنغهاي (رويترز)

ردّة الفعل الأميركية

أثارت قمة تيانجين وعرضها العسكري الضخم ردود فعل صارخة من واشنطن، فقد وصف وزير الخزانة سكوت بيسنت قادة الهند والصين وروسيا بأنهم “جهات فاعلة سيئة” ووصف القمة بأنها “استعراضية واحتفالية للصورة دون مضمون” مقللا من شأن ما تردد حول أن الرسوم الأميركية تدفع الهند والصين إلى التقارب.

واتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب -عبر منصة “تروث سوشيال”- قادة الصين وكوريا الشمالية وروسيا بالتآمر على بلاده، وعلق في تدوينة على العرض العسكري الذي نظّمته الصين في بكين قائلاً “أتمنى للرئيس شي وللشعب الصيني العظيم يوما رائعا، وأرجو أن تنقلوا أطيب تحياتي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وللزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في مؤامرتهما ضد الولايات المتحدة”.

كما وصف العلاقة التجارية الأميركية الهندية بأنها “كارثة أحادية الجانب” و”متأخرة جدًا” في تعديل الهيكل التجاري، من خلال رسالة ضمنية حول مشاركة مودي بقمة منظمة شنغهاي.

واتهم بيتر نافارو (أحد مساعدي ترامب) الهند باستغلال الحرب الروسية الأوكرانية لشراء النفط الروسي بأسعار مخفضة لتبيعه إلى أوروبا، واصفاً نيودلهي بأنها “ليست سوى مغسلة ملابس للكرملين”. ومع ذلك قال إن “مودي قائد عظيم، لا أفهم لماذا يقيم علاقات مع بوتين وشي، وهو أكبر ديمقراطية في العالم”.

النتائج الاستثنائية للقمة

أفضت قمة تيانجين إلى سلسلة من النتائج الاستثنائية، بعضها يحمل آثارًا إستراتيجية بعيدة المدى، كإعلان وزير الخارجية الصيني وانغ يي -في ختام القمة- إطلاق إستراتيجية تنموية لعقد قادم تُوجه عمل منظمة شنغهاي حتى عام 2035، وتضع “روح شنغهاي” ومبادئ التعاون المتبادل في واجهة التنمية الإقليمية.

وكذلك الموافقة على إنشاء بنك تنمية خاص بالمنظمة، في خطوة ينظر إليها على أنها محاولة لتقويض الاحتكار الغربي للمؤسسات المالية الدولية، ويوفر المزيد من التمويل لمنطقة أوراسيا.

وإضافة إلى ذلك، أعلنت القمة تأسيس مراكز أمنية جديدة داخل المنظمة، تشمل مركز مكافحة التهديدات، مركز الأمن المعلوماتي، مركز مكافحة الجريمة المنظمة، ومركز مكافحة المخدرات، مما يعزز دور شنغهاي الأمني متعدد الأجندات.

كما أعلن عن إطلاق 6 منصات تعاون جديدة، تشمل الطاقة والصناعة الخضراء والاقتصاد الرقمي، إضافة إلى مراكز للابتكار التكنولوجي والتعليم الفني، مما يعزز من مساعي المنظمة لتحولها إلى قوة اقتصادية حقيقية.

ومن جانب آخر، أطلق الرئيس الصيني خلال القمة مبادرة جديدة حول الحوكمة العالمية، وتستهدف معالجة التحديات المشتركة، وتقوم المبادرة على 5 مبادئ: المساواة في السيادة، الامتثال للسيادة الدولية للقانون، ممارسة التعددية، الدعوة إلى نهج يركز على الشعوب، التركيز على اتخاذ إجراءات فعلية.

وأشار الرئيس الصيني إلى أن تسارع التغيرات العالمية غير المسبوقة يستدعي أن تتولى “منظمة شنغهاي للتعاون” دور القيادة وأن تكون نموذجا في تنفيذ مبادرات الحوكمة العالمية، وهو الأمر الذي حظي بدعم الرئيس الروسي، مؤكدا أن “منظمة شنغهاي للتعاون” تلعب دورا نشطا في تعزيز “السلام والأمن” في منطقة أوراسيا منذ تأسيسها.

حضور كيم قمة شنغهاي والعرض العسكري ببكين في أول مشاركة متعددة الأطراف (رويترز)

الرسائل من العرض العسكري

كان لافتا في العرض العسكري في بكين حضور 3 زعماء نوويين معادين للغرب، إضافة للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في حدث علني أمام العالم، لاستعراض أسلحة فتاكة لقوة عالمية كبرى.

ويشكل حضور الزعيم الكوري الشمالي للعرض أول حضور له في مناسبة كبرى متعددة الأطراف خلال فترة حكمه منذ 14 عاماً، كما أنها المرة الأولى التي يجتمع فيها كيم وشي وبوتين في مكان واحد.

وفي رسالة إلى الولايات المتحدة والغرب، قال الرئيس الصيني وهو يتفقد الجنود خلال العرض “إن نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها”.

وكشفت الصين خلال العرض، ولأول مرة عن ترسانتها النووية الثلاثية، أي 3 منصات إطلاق نووية، برا وبحرا وجوا، والتي تتضمن صاروخ “جينغ لي-1” الجوي، وصاروخ “جولانغ-3” البحري، وصاروخ “دونغ فينغ-61” البري.

وشارك في العرض 45 ألف جندي، ضمن 45 تشكيلا، وظهرت 100 طائرة و600 آلية برية ومئات الصواريخ الإستراتيجية من الجيل الجديد.

وتم خلاله الكشف عن صاروخ “دي إف-5 سي” العابِر للقارات، ومنظومة صواريخ متحركة “دي إف-61” وأسلحة مضادة الطيران، بالإضافة إلى طائرات درون وأسلحة ذكية.

شاركها.
Exit mobile version