تعاني فرنسا نموذجاً اقتصادياً غير مستدام، ويبدو أن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون في باريس عاجزة حتى عن مناقشة الأمر، ناهيك عن اتخاذ أي إجراء حياله.

وقد يكون من الصعب، في ظل الصعوبات الحالية التي تواجهها فرنسا، أن نتذكر، لكن قبل فترة ليست بالبعيدة، كانت البلاد تتخذ خطوات لتخفيف مشكلاتها الاقتصادية والمالية، لكن للأسف، انقضت تلك اللحظة، وبالتالي تبدو التوقعات قاتمة.

عندما تولى ماكرون منصبه رئيساً لفرنسا عام 2018، حمل معه أجندة للإصلاح الاقتصادي والمالي الضروري. وشملت خطواته الأولى تغييرات في قانون العمل والضرائب.

ووعد بأنه بمجرد أن تسمح هذه الإصلاحات باقتصاد أكثر صحة، سيتخذ خطوات إضافية لترتيب أمور البلاد المالية، ما يضع الاقتصاد السياسي للبلاد على أسس أكثر متانة. وفي ذلك الوقت، بدا وكأنه يمتلك تفويضاً بالسعي لتحقيق هذه الأهداف.

إصلاحات تاريخية

فور توليه منصبه، نفّذ ماكرون إصلاحات تاريخية عدة. ولتشجيع الابتكار والاستثمار، وبالتالي إنعاش الاقتصاد، استبدلت حكومته قانوناً ضريبياً مُرهِقاً ومعقداً بضريبة ثابتة بنسبة 30% على دخل الاستثمار. وألغى الضريبة الفرنسية الخاصة على الثروات غير العقارية.

وعلى صعيد العمل، منحت قوانين جديدة الشركات الصغيرة والمتوسطة مرونة كبرى من خلال السماح لها بالتفاوض مع قيادات النقابات المحلية بدلاً من الوطنية، كما أتاح فرص العمل من خلال منح الشركات حرية كبرى في اتخاذ قرارات التوظيف والفصل.

ونظراً لأن القانون السابق كان يجعل من شبه المستحيل على الشركات فصل موظفيها، حتى لو كان ذلك لسبب وجيه، فقد تردد أصحاب العمل الفرنسيون طويلاً في توظيف الأفراد بدوام كامل.

وبدلاً من المخاطرة بإبقاء موظفين غير مرغوب فيهم على كشوف المرتبات، تجاهل مديرو الشركات فرص التوسع أو اعتمدوا بشكل متزايد على عقود عمل قصيرة الأجل لتلبية احتياجاتهم من العمالة، وهي ممارسة لم تساعد على تدريب العمال، وبالتالي عوّقت تحسين الإنتاجية.

تسارع النمو

ورغم الاحتجاجات الجماهيرية من اليسار والنقابات والعمال ذوي الخبرات، أُقرت الإصلاحات وبدا أنها تفيد الاقتصاد الفرنسي. وتسارع النمو الاقتصادي من 0.8% عام 2016 إلى 2% عام 2019، عقب تطبيق تلك الإصلاحات.

كما تحسن وضع التوظيف في البلاد، حيث انخفض معدل البطالة الإجمالي من 10% من القوى العاملة عام 2016 إلى نحو 7.2% قبيل أن تعطل جائحة «كوفيد 19» الاقتصاد. وانخفض معدل بطالة الشباب من أعلى مستوى له عند 25% قبل دخول الإصلاحات حيز التنفيذ إلى نحو 20% عام 2019. وتسارع نمو إنتاجية العمل من متوسط 0.6% سنوياً خلال السنوات الخمس التي سبقت الإصلاحات إلى 0.8% سنوياً في السنوات الثلاث التي تلتها.

هذه الأرقام لا تثير الحسد في بعض الاقتصادات، لكنها كانت بالغة الأهمية في السياق الفرنسي.

وأوضح ماكرون آنذاك أن هذه الجولة من الإصلاحات ليست سوى البداية. فإذا أرادت فرنسا مواصلة دعم الدولة السخي لرفاهية مواطنيها، فستحتاج إلى المزيد من التغييرات الداعمة للنمو، إضافة إلى الإصلاحات المالية، من أجل السيطرة على الإنفاق الحكومي. ومن دون هذه التغييرات، كان النموذج السياسي والاقتصادي غير مستدام.

لم يكن ماكرون صريحاً مثل المستشار الألماني المنتخب حديثاً فريدريش ميرتس، عندما قال إن الرعاية الاجتماعية في ألمانيا «لم تعد مستدامة». ومع ذلك، كان يعتقد بوضوح أن فرنسا في القارب نفسه، وهذا ما حفز ماكرون.

فقدان النفوذ

لكن السياسة الفرنسية تغيرت، ولم تعد قادرة على إنتاج إصلاحات أو التحرك على الإطلاق. لقد فقدت ولاية ماكرون، التي لم تعد قوية كما بدت في السابق، كل نفوذها تقريباً في الجمعية الوطنية (البرلمان). ومن جهة، في الجمعية، يتمتع اليسار الذي حارب إصلاحات ماكرون منذ البداية، بنفوذ كبير، لكن من جهة أخرى، يبدو أن حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان، على الرغم من كونه أكثر تحضراً من حزب والدها المتعصب، يفضل تعزيز تمرده القوي من خلال مواقف معادية للاتحاد الأوروبي والمهاجرين بدلاً من التفكير في إصلاحات اقتصادية أو مالية.

في غضون عامين، عيّن ماكرون خمسة رؤساء للوزراء، واضطر إلى تأجيل إصلاح متواضع كان من شأنه أن يُبطئ الإنفاق الحكومي الفرنسي بشكل طفيف من خلال رفع سن التقاعد الفرنسي تدريجياً من 62 إلى 64 عاماً، والذي لايزال أقل من المتوسط الأوروبي البالغ 65 عاماً.

ونظراً لتشكيلة الجمعية الوطنية، فمن المشكوك فيه للغاية أن تتمكن فرنسا من فعل أي شيء لمعالجة نقاط الضعف المالية أو الاقتصادية في أي وقت قريب، خاصة أن الالتزامات الجديدة بشأن الإنفاق الدفاعي لن تؤدي إلا إلى تفاقم الضغوط المالية والاقتصادية القائمة.  «ناشيونال إنترست»

أمر محبط

عدّ مراقبون للشأن الفرنسي أن الأمور يجب أن تزداد سوءاً في فرنسا قبل أن تتحسن، لكن بالنسبة للرئيس إيمانويل ماكرون، فالأمر محبط، حيث اضطر إلى مشاهدة إصلاحاته الاقتصادية التي وُصفت بـ«الجريئة»، تذهب سدى، كما اضطر لرؤية طموحاته لـ«فرنسا أكثر أهمية وقوة» تتلاشى أيضاً.

• ماكرون نفّذ فور توليه منصبه إصلاحات تاريخية عدة أنعشت اقتصاد البلاد.

• السياسة الفرنسية تغيرت، ولم تعد قادرة على إنتاج إصلاحات أو التحرك على الإطلاق.

شاركها.
Exit mobile version