تؤكد المؤشرات الحديثة أن الاقتصاد الروسي أصبح أضعف مقارنة بما كان عليه في المراحل الأولى من الحرب على أوكرانيا، مع دخول الحرب عامها الرابع، فقد كشف تقرير حديث صادر عن منظمة «بيس ريب» العالمية للأبحاث، التابعة لجامعة إدنبرة، أن الاقتصاد الروسي يواجه تحديات متزايدة نتيجة الأعباء المالية الضخمة التي فرضتها الحرب.

وأفاد التقرير الذي يحمل عنوان: «سباق مع الزمن؟ لماذا ينفد اقتصاد الحرب الروسي»، بأن روسيا اضطرت إلى إنفاق هائل لتمويل العمليات العسكرية، في وقت تراجعت قدرتها على توليد الإيرادات.

وأوضح التقرير أن أحد المصادر الرئيسة التي تعتمد عليها روسيا في تمويل هذا الإنفاق، وهو صندوق الثروة السيادي الروسي، يشهد استنزافاً متسارعاً، حيث إنه بحسب البيانات الواردة تم إنفاق نحو 76% من احتياطات الصندوق، التي كانت تبلغ قبل الحرب نحو 148 مليار دولار، وذلك خلال السنوات الثلاث الأولى فقط من الحرب.

استعدادات

وفي مقال سابق لي، نُشر في مايو الماضي، أشرت إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يمتلك القدرة على تحمل تكاليف حرب طويلة الأمد، مستنداً إلى استعدادات اقتصادية امتدت لأكثر من عقدين، فخلال فترة حكمه حافظت روسيا على تحقيق فوائض متواصلة في الميزانية، ونجحت في تكوين احتياطات كبيرة من العملات الأجنبية، إلى جانب تقليص اعتمادها على الديون الغربية.

غير أن التساؤل الجوهري المطروح اليوم، يتمثل في مدى قدرة هذه الاستعدادات على الاستمرار في دعم الاقتصاد الروسي، ففي الوقت الراهن لاتزال روسيا قادرة على مواصلة تمويل الحرب، إلا أن ذلك يتحقق من خلال الاعتماد المكثف على احتياطاتها السابقة، سواء من النقد الأجنبي أو من صندوق الثروة السيادي، إضافة إلى تخصيص نسبة متزايدة من مواردها الوطنية لصالح القطاع العسكري.

ضغوط

وتزداد الضغوط على الاقتصاد الروسي بفعل العوامل الخارجية، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي، الذي يعد حالياً أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال الروسي وغاز الأنابيب، في مطلع ديسمبر، عزمه وقف استيراد الغاز الطبيعي المسال الروسي بحلول عام 2026، على أن يتوقف استيراد غاز الأنابيب في العام الذي يليه.

وعلى الرغم من هذه التحديات، أظهرت مصادر الدخل الروسية قدراً من المرونة خلال سنوات الحرب، وقامت روسيا بتنويع وجهات صادراتها من النفط الخام، حيث باتت الصين تستحوذ على نحو 47% من هذه الصادرات، بينما تستورد الهند نحو 38%، وتأتي تركيا بحصة تقدر بنحو 6%.

وقد أسهمت هذه التدفقات المالية، إلى جانب التحضيرات الاقتصادية التي سبقت الحرب، في دعم الركائز الثلاث الأساسية لأي اقتصاد في زمن النزاعات، وهي: الإنتاج الصناعي، والقدرة المالية، والمرونة الاجتماعية.

الصناعة والطاقة

ووفقاً لتحليل صادر عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية عام 2024، ارتفع الإنتاج الصناعي المرتبط بالحرب في روسيا بنسبة تقارب 60% خلال السنوات الأولى للحرب، ولايزال هذا التوسع يشكل دعامة رئيسة للقاعدة الصناعية الروسية حتى اليوم، إذ استحوذت الصناعات العسكرية على النصيب الأكبر من نمو قطاع التصنيع منذ اندلاع الحرب.

وفي السياق ذاته، لاتزال عائدات قطاع الطاقة تشكل مصدراً مهماً لدعم الميزانية الفيدرالية، رغم ازدياد اعتماد الحكومة على الاقتراض الداخلي والسحب من الاحتياطات لتغطية العجز المالي.

أما على مستوى الأسر، فقد أسهمت زيادة الأجور في القطاعات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية، إلى جانب المساعدات الحكومية المقدمة لعائلات الجنود المجندين، في الحد من تأثيرات التضخم، بل إن عوائد التجنيد أسهمت في رفع معدلات الادخار لدى الأسر، خصوصاً في المناطق الأفقر داخل روسيا، ومع ذلك لا يمكن تجاهل أن هذه الحرب وتكاليفها الباهظة تلقي بظلالها السلبية على آفاق النمو الاقتصادي الروسي.

تحديات

ويظل السؤال المحوري المطروح حالياً هو: إلى متى ستتمكن روسيا من الاستمرار في دعم اقتصادها العسكري بالاعتماد على ما تبقى لديها من احتياطات؟ فقد تحول نقص العمالة إلى مشكلة هيكلية عامة، ولم يعد مجرد ظاهرة مؤقتة، في وقت تستمر فيه الضغوط التضخمية حتى مع تباطؤ وتيرة النمو، وتتفاقم هذه التحديات بسبب التراجع السكاني المستمر، حيث أدى التجنيد الإجباري إلى جانب موجات الهجرة والانخفاض طويل الأمد في عدد السكان، إلى تقليص حجم القوى العاملة المتاحة لكل من القطاع الصناعي والمؤسسة العسكرية.

كما تواجه روسيا قيوداً متزايدة على الصعيد التكنولوجي، فقد أسهمت ضوابط التصدير المفروضة عليها في عزلها عن العديد من المكونات المتقدمة، ما دفعها إلى الاعتماد بشكل أكبر على الواردات الموازية أو البدائل المحلية، التي غالباً ما تكون أعلى كلفة أو أقل كفاءة، وينعكس ذلك سلباً على سرعة الإنتاج ويحد من تطوير أنظمة عسكرية جديدة ومتقدمة.

وفي نهاية المطاف تعتمد قدرة روسيا على مواصلة القتال بدرجة كبيرة على عوامل خارج حدودها، حيث تسهم هذه العوامل في إبطاء وتيرة تشديد الضغوط المالية، وفي المقابل تؤدي العقوبات الأميركية والأوروبية المتزايدة إلى تقييد وصول روسيا إلى التكنولوجيا المتقدمة وتعقيد حركة تجارتها الخارجية.

وعلى الرغم من أن الاقتصاد الروسي لا يبدو في حالة انهيار وشيك، فإنه في الوقت ذاته لا يتمتع بالاستقرار الكامل، حيث يواصل البقاء من خلال ترحيل الأعباء والضغوط إلى المستقبل، سواء على مستوى سوق العمل، أو المالية العامة، أو الحياة اليومية للأسر الروسية.

يرزان توكبولات*

*محاضر في جامعة «كوين» في بلفاست.

عن «آسيا تايمز»

. صندوق الثروة السيادي الروسي يعد أحد المصادر الرئيسة الذي تعتمد عليه موسكو لتمويل عملياتها العسكرية.

. الإنتاج الصناعي المرتبط بالحرب وعائدات قطاع الطاقة، لايزالان يدعمان الاقتصاد الروسي.

شاركها.
Exit mobile version