في أربعينيات القرن الماضي إبان الحرب العالمية الثانية، كانت صحاري شمال أفريقيا مسرحا لزحف القوات الألمانية في شمال أفريقيا “الفيلق الأفريقي” (Afrika Korps) بقيادة ثعلب الصحراء رومل، الذي حفر رجاله ودباباته آثارهم في رمال ليبيا ومصر.
ثم في زمن الحرب الباردة، وصلت المواجهات إلى أدغال منطقة البحيرات العظمى وسهول القرن الأفريقي وهضابه، حيث تصارعت موسكو وواشنطن بالوكالة على النفوذ والموارد.
واليوم، تدور حكاية مشابهة تستدعي الرموز القديمة ذاتها ولكن في ثوب جديد، ففي أواخر عام 2023 أعلنت روسيا عن تأسيس “الفيلق الأفريقي” (Africa Corps)، الذي يستلهم اسم قوة رومل البائدة بشعار غزير التفاصيل لا يخلو من دلالات: درع منمق على شكل قبة مظلة، تتوسطه خوذة محارب روسي قديم، خلفها سيف عتيق رأسه متجه نحو الأسفل، ومقبضه يرتفع فوق الخوذة.
وُضعت الخوذة والسيف فوق صورة مُصممة للقارة الأفريقية، يعلوها شعار فيلق أفريقيا الروسي الجديد “مَن يملك الجرأة ينتصر”.
تأسس الفيلق الجديد ليتولى المهام التي أدَّتها سابقا شركة “فاغنر” الروسية الخاصة نيابة عن الكرملين في أفريقيا، وهو موجود اليوم في العديد من الدول الأفريقية من ليبيا إلى أفريقيا الوسطى.
لكن هذا الوجود الروسي بات يحظى بمنافسة واضحة، ليس من الولايات المتحدة أو إحدى القوى الأوروبية الكبيرة، ولكن من أوكرانيا التي تخوض حربا مع روسيا منذ عام 2022، وتسعى لفتح جبهة دبلوماسية وعسكرية لمنافسة روسيا في القارة الأفريقية، رغم محدودية مواردها.
نتيجة لذلك، يطالع الأفارقة اليوم مشاهد لا تكاد تنتمي إلى أرضهم أو بيئتهم. ففي وسط بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، يعلو نصب تذكاري يكرّم الجنود الروس “الذين حموا العاصمة من المتمردين”، وفي شوارع دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) تُرفع رايات موسكو في تظاهرات مناهضة لفرنسا، في المقابل ظهرت أعلام أوكرانيا في أيدي مسلحين من الطوارق في مالي، بعد أن ألحقوا هزيمة بمرتزقة تابعين لروسيا منتصف العام الماضي (2024).
وفي موقع ليس ببعيد، جغرافيًّا أو سياسيًّا، ظهر العَلَم الروسي أيضا خلال احتجاجات في نيجيريا. وفي الخرطوم، يوثّق مقطع قصير يعود إلى فبراير/شباط 2024 جنديا أوكرانيا يستجوب عنصرا من “فاغنر” وسط رمال السودان. تلك مشاهد متباعدة تُلخِّص ملامح “حرب باردة مصغّرة” تُدار على أرض أفريقية، فيما تتبدّل خرائط الولاءات تبعا للمصالح.
على الجانب الروسي، يُعد “الأمن” هو منتج موسكو الرئيسي وبضاعتها الرائجة، فهي توفر أو “تبيع” خدماتها الأمنية للأنظمة وتساعدها في قمع “المتمردين” مقابل مكاسب سياسية مثل الأصوات الداعمة في الأمم المتحدة، ومنافع اقتصادية مثل الحصص المربحة في أنشطة المناجم والتعدين. وعلى الضفة المقابلة، تردّ كييف -بدعم غربي- بشبكة سفارات جديدة، وشحنات قمح إلى موانئ القارة، ومساعدات استخباراتية لا تبذل جهدا في إنكارها.
هكذا تستمر رحى الحرب البعيدة في الدوران فوق الأراضي السمراء. فما بين ذهب مالي، وماس أفريقيا الوسطى، ومرافئ البحر الأحمر، والموارد البشرية من شباب القارة المجنّدين لدى الطرفين، يتقاطع الأمن مع الاستثمار، والدعاية مع الخبز، وتُعاد صياغة خطوط النفوذ في القارة. لم تعد القضية فقط هي مَن ينتصر في أوروبا، بل أين تُحصَّل الفاتورة، ومَن يدفعها على الأرض الأفريقية.
خمر عتيقة في آنية جديدة
على مدار أكثر من عقد مضى، اتخذت مقاربة موسكو في أفريقيا منحًى مختلفا يعتمد على توظيف أدوات غير نظامية لبسط النفوذ ومنافسة القوى الغربية. وعوضا عن الاكتفاء بالقنوات الدبلوماسية التقليدية، بنَت روسيا نفوذا في الظل تقوده الشركات الأمنية الخاصة، وشبكات التعدين المتشعبة، والمنصات الإعلامية التي تخاطب الجمهور الأفريقي بلغاته المحلية والإقليمية.
بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية، قدّمت موسكو “طريقة فاغنر” نموذجا لتعميق حضورها الأفريقي عبر شراكات عسكرية واقتصادية تتحول إلى “واقع جيوسياسي” يتغلغل داخل فراغات النفوذ الغربي.
كما لجأت موسكو إلى ما يُعرف بـ”أسطول الأشباح”، وهي سفن تجارية قديمة تُخفي هويتها وموقعها، لتجاوز العقوبات ونقل الذهب والأسلحة من/إلى ساحات مثل ليبيا والسودان، بما يحفظ تدفق الموارد الحيوية بعيدا عن الرقابة.
في قلب هذه المنظومة برزت مجموعة فاغنر بوصفها أبرز أذرع موسكو غير النظامية، التي وصفتها “Grey Dynamics”، وهي شركة استخبارات خاصة وتحليل أمني مقرها لندن، بـ”الشركة العسكرية الخاصة الأكثر شهرة في العالم”، حيث جمعت فاغنر بين مهام العمل العسكري المباشر وتوفير الحماية للأنظمة الحليفة لموسكو، وضمان السيطرة على الموارد، لكن مقتل قائدها يفغيني بريغوجين في أغسطس/آب 2023 بحادث سقوط طائرة غامض عقب محاولة تمرده على الكرملين مَثَّل لحظة مفصلية، إذ أعادت موسكو هيكلة نشاطها تحت اسم “الفيلق الأفريقي” بإشراف وزارة الدفاع الروسية.
يتولى الفيلق الوظائف نفسها التي تولتها مجموعة فاغنر، بما يشمل بسط النفوذ الروسي وتوفير الخدمات الأمنية للأنظمة الحليفة وتأمين المصالح الاقتصادية وشبكات التعدين. وتشير التقديرات إلى أن 70-80% من قوام الفيلق الجديد كانوا عناصر سابقين في فاغنر وفقا لـ”رويترز” التي أشارت كذلك إلى أن “الفيلق الأفريقي” دشن أعماله في مالي رسميا، بينما أكدت وكالة “أسوشيتد برس” بدء نشاط الفيلق الجديد في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وفقا لتسلسل الأحداث، يركز الفيلق نشاطه في دول الساحل الثلاث (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) بعد الانقلابات العسكرية الأخيرة (2021-2023) وتأسيس الأنظمة العسكرية الحاكمة الجديدة ما يُعرف بـ”كونفدرالية دول الساحل” إطارا جديدا للتحالف بينها، بعد أن حوَّلت بوصلتها من باريس وواشنطن صوب موسكو، إضافة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يوفّر الروس حماية للرئاسة، وتدريبا للجيش، ويؤمّنون المصالح الاقتصادية.
لا يقف وجود روسيا عند هذا الحد، فلا تزال موسكو تتمسك بنصيبها في كعكة السودان، حيث سبق أن دعمت فاغنر شبكات تهريب الذهب المرتبطة بقوات الدعم السريع، ولكن موسكو اليوم تبدو أقرب للحكومة السودانية بقيادة الجيش، أملا في تحقيق تقدم حول اتفاق إقامة القاعدة البحرية الروسية على السواحل السودانية المطلة على البحر الأحمر.
أمّا في ليبيا، فيستمر الدعم الروسي لقوات الجنرال خليفة حفتر، حيث تعزز روسيا وجودها في القواعد العسكرية الليبية وأهمها الخادم والجفرة، مع تقارير عن نية تحويل قاعدة “معطن السارة” الواقعة بالقرب من الحدود مع تشاد والسودان، والمهجورة منذ عام 2011، إلى مرتكز رئيسي للانتشار الأفريقي استجابة للتطورات على الساحة السورية.
هذا التمدد الروسي يخدم أهدافا إستراتيجية واضحة، على رأسها ضمان الوصول إلى موارد حيوية مثل المعادن الثمينة في مالي وأفريقيا الوسطى إضافة إلى اليورانيوم في النيجر، مع توسيع هامش المناورة الجيوسياسية بعيدا عن المسرح الأوروبي، وتأمين كتلة دعم سياسي في المحافل الدولية، وكذلك تجنيد العناصر الأفريقية للاستعانة بها بوصفها قوة بشرية مساندة منخفضة التكلفة في مهام القتال المختلفة، سواء على خطوط المواجهة الميدانية مع أوكرانيا أو داخل أفريقيا نفسها.
ولاءات تتحرك على الرمال
هذا التمدد الأمني والاقتصادي الروسي في أفريقيا سرعان ما تُرجم سريعا إلى إنجازات سياسية أعادت رسم خرائط الولاء داخل القارة. ففي أغسطس/آب 2024، أعلنت مالي قطع العلاقات مع أوكرانيا على خلفية تصريحات رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف حول تقديم معلومات استخباراتية إلى “المتمردين الطوارق” لتنفيذ هجوم قُتل فيه العشرات من الجنود الماليين وعناصر من فاغنر.
بعد أيام، قطعت النيجر علاقاتها مع كييف تضامنا مع باماكو للأسباب ذاتها، ثم وجّهت بوركينا فاسو مع مالي والنيجر رسالة مشتركة إلى مجلس الأمن تتهم أوكرانيا بدعم “الإرهاب” في الساحل. بالتوازي، تحرك السودان أيضا في اتجاهٍ أقرب إلى موسكو رغم أن موقفه لم يرقَ إلى مستوى التصعيد الذي تبنَّته دول الساحل بقطع العلاقات مع كييف.
فقد أعلنت الخرطوم عودة التشاور حول مشروع إنشاء قاعدة بحرية روسية على سواحل البحر الأحمر، فيما وقَّع البلدان مذكرات تفاهم للتعاون في مجالات متعددة شملت التعدين والقطاع المصرفي.
تجلَّت ثمار هذا التقارب دوليا حين استخدمت روسيا حق الفيتو في مجلس الأمن لتعطيل قرار بوقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وهو ما رحّبت به الحكومة السودانية معتبرة أن القرار كان يهدف إلى تقويض التقدم الميداني للجيش بعد نجاحه في عبور الجسور الرئيسية الرابطة بين الخرطوم وأم درمان، وهو ما أثمر في النهاية استعادة الخرطوم العاصمة وولايات إستراتيجية أخرى في الشرق والوسط من قبضة قوات الدعم السريع.
آتت الجهود الروسية أُكلها بوضوح، وظهر ذلك جليا في أنماط تصويت الأفارقة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. ففي 2 مارس/آذار 2022 عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية مباشرة، صوّتت 28 دولة أفريقية لصالح قرار يدين “الغزو الروسي”، وامتنعت 17 دولة، فيما صوّتت إريتريا ضد القرار، وتغيّبت 8 دول عن التصويت.
وبعد ثلاث سنوات في 24 فبراير/شباط 2025، تراجع عدد الدول الأفريقية المؤيدة إلى نحو 20 فقط خلال التصويت على قرار “طريق السلام”، فيما صوّتت مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى جانب السودان ضد القرار، وامتنعت أو تغيّبت بقية الدول الأفريقية بنسب أعلى من 2022.
وإلى جانب القوة الصلبة، لعبت الآلة الإعلامية دورها في ترويج الرواية الروسية، عبر منصتَيْ “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”. وقد أطلقت “سبوتنيك” مركزا تحريريا في أديس أبابا وبدأت البث بالأمهرية مطلع هذا العام، ثم أضافت خدمة بالسواحيلية في يونيو/حزيران إلى جانب الفرنسية والإنجليزية والعربية، ما يمنحها قدرة وصول إلى ما يزيد على ثلاثين دولة بلغاتها الرسمية أو الأكثر تداولا، حيث تبث رسائل إعلامية تعمل على تعزيز السخط الشعبي على الوجود الفرنسي والغربي خصوصا في منطقة الساحل.
بهذا المزيج من النفوذ الأمني والاقتصادي والإعلامي، نجحت روسيا في تحويل وجودها الأفريقي إلى رصيد سياسي فعلي ينعكس في قرارات دبلوماسية واصطفافات إقليمية ومواقف تصويتية، ويجعل القارة إحدى أبرز ساحات إعادة تشكيل النظام الدولي من منظور الكرملين.
“اصطياد الدُّب”
على الجانب المقابل، ومنذ العام الأول للحرب، أدركت كييف أن معركتها مع موسكو لا تُحسم بالبندقية على الجبهة الأوروبية فقط، بل أيضا في قاعات التصويت بالمحافل الدولية التي تتمتع أفريقيا فيها بثقل مؤثر، وعلى أرصفة الموانئ الأفريقية، وداخل المزاج العام في العواصم الكبرى بالقارة، حيث تبني روسيا نفوذا متجذرا.
فبعد أشهر من اندلاع القتال عام 2022، أصدرت أوكرانيا وثيقة عامة شملت إستراتيجيتها الأفريقية الأولى، وكانت الأهداف المعلنة هي مواجهة الرواية الروسية وزيادة التجارة والاستثمار في قارة لا تزال تتذكر الدعم الروسي لها خلال الحرب الباردة وموقف موسكو المناهض لنظام الفصل العنصري. ومن هنا، انطلقت أوكرانيا في خطة ثلاثية الأبعاد، دبلوماسية واقتصادية وأمنية، لتطويق الحضور الروسي وإعادة صياغة موازين القوى في القارة.
دبلوماسيا، عيَّن الرئيسُ فولوديمير زيلينسكي ممثلا خاصا له في الشرق الأوسط وأفريقيا هو ماكسيم سوبك، وتعددت زيارات المسؤولين الأوكرانيين إلى العواصم الأفريقية، ومنها ما حدث في أبريل/نيسان الماضي حين أصبح زيلينسكي أول رئيس أوكراني يزور جنوب أفريقيا الحليف الوثيق لروسيا. وخلال الفترة بين عامي 2022-2025، أعلنت وزارة الخارجية الأوكرانية عن افتتاح أو التخطيط لافتتاح 10 سفارات جديدة في أفريقيا، تشمل دولا لم يكن لها فيها أي تمثيل سابق، إلى جانب إعادة تنشيط بعثات قديمة.
ووفق تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في أبريل/نيسان الماضي، هندست كييف “هجوما دبلوماسيا مضادا” للوجود الروسي بالقارة، مستهدفةً دولا تُصنَّف “عقدة توازن” في الموقف الأفريقي من الحرب، مثل ساحل العاج القوة الاقتصادية المحورية في غرب أفريقيا، وصاحبة النفوذ الدبلوماسي داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، وغانا صاحبة “الديمقراطية المستقرة”، وموريتانيا التي تملك موقعا إستراتيجيا على الأطلسي وحدودا طويلة مع مالي.
اقتصاديا، وظّفت أوكرانيا صادرات القمح بوصفها سلاحا دبلوماسيا من خلال مبادرة “الحبوب من أوكرانيا” (Grain from Ukraine) المموَّلة أوروبيا وأميركيا، وبالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي، حيث أعلنت كييف في الفترة بين 2024 و2025 عن إيصال الحبوب الأوكرانية بوصفها مساعدات إنسانية إلى 12 دولة أفريقية استفاد منها 8 ملايين شخص، بينها نيجيريا (حصلت على شحنات قمح ودقيق عبر البرنامج)، والسودان (حصل على شحنة عبر ميناء بورتسودان مطلع 2024)، إضافة إلى شحنات لدول الشرق الأفريقي؛ كينيا، والصومال، وجيبوتي، وغيرها.
ورغم أن هذه الكميات لا تضاهي الصادرات الروسية، فإنها حملت رسالة سياسية مضادة لسردية موسكو التي تُصوِّر أوكرانيا بوصفها “وكيلا للغرب الذي يجوّع أفريقيا”، خاصة في الدول المحايدة التي لا تتمتع بروابط وثيقة مع موسكو.
المواجهة الصامتة
أمنيًّا، تبنّت كييف أسلوب “اللعب في الظل” عبر ضربات تكتيكية منخفضة البصمة تؤثر على بنية النفوذ الروسي دون إثارة مواجهة مباشرة. من أبرز الأمثلة دعمها غير المباشر لجماعات الطوارق في شمال مالي، الأمر الذي فجّر أزمة دبلوماسية مع حكومة باماكو وحلفائها في تحالف دول الساحل عام 2024، وانتهى بقطع العلاقات مع كييف.
ورغم الخسائر الدبلوماسية، فقد كشفت هذه الأزمة شبكات التحالفات الأمنية الروسية وأخرجتها من الظل، موجهة رسالة مزدوجة: أوكرانيا قادرة على تعطيل البنية الأمنية لموسكو في “ساحتها الخلفية”، والحرب الأوروبية لها امتدادات مرئية في أفريقيا.
ركزت كييف على غانا وموريتانيا بوصفهما نقاط ارتكاز في غرب القارة، في محاولة لتطويق النفوذ الروسي الذي ترسّخ عبر تحالف/كونفدرالية دول الساحل (مالي، بوركينا فاسو، النيجر). ففي غانا، فتح تدشين السفارة الأوكرانية في أكرا (ديسمبر/كانون الأول 2023) المجال لتعاون أمني وتقني، تُوّج في يوليو/تموز 2025 باتفاق مبدئي لمشاركة الخبرات الأوكرانية في تصنيع المسيّرات، مع مساهمة مالية من أكرا لدعم الإنتاج الأوكراني الموجَّه لتعزيز قدرات المراقبة الحدودية.
أما موريتانيا فقد تلقَّت في مطلع 2025 عرضا أوكرانيا قدَّمه المبعوث الخاص ماكسيم سوبك لتدريب قوات النخبة الموريتانية، مستفيدا من خبرات أوكرانيا الميدانية في الحرب مع روسيا، وجاء هذا في وقت كان فيه التوتر بين نواكشوط وباماكو على أشده. وتشير هذه التحركات إلى رغبة كييف في كسر احتكار موسكو لسوق السلاح الأفريقي وتقديم نفسها بوصفها بديلا موثوقا للدول الأفريقية في مجالات التسليح والتدريب.
كما امتدت الجهود الأوكرانية إلى المجال البحري، بالمشاركة مع شركاء غربيين في رصد وتعطيل “أسطول الأشباح” الذي تستخدمه روسيا في بعض عملياتها عبر الموانئ الأفريقية. لكن أكثر الساحات تعقيدا هي السودان، حيث يدعم الخصمان في الحرب (الروسية الأوكرانية) الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع، وذلك بعد أن غيرت روسيا موقفها نسبيا وصارت أقرب للتحالف مع الجيش في زمان ما بعد فاغنر.
في نهاية المطاف، من الواضح أن كييف نجحت في تحقيق اختراقات لافتة في أفريقيا خلال فترة قصيرة، رغم ذلك فإن جهودها لا تواجه تحديات بنيوية، أهمها رسوخ شبكات موسكو الاقتصادية والأمنية، ووجود كتلة أفريقية تميل إلى “الحياد النشط” وتحافظ على قنوات مفتوحة مع الكرملين. لذلك، يبقى الرهان الأوكراني في أفريقيا أقرب إلى إستراتيجية استنزاف ذكي تهدف إلى رفع كلفة النفوذ الروسي وتقليص هوامش مناورة موسكو، دون القدرة على انتزاع ولاء كامل من العواصم السمراء على الأرجح.
“فاتورة الصراع”
ويبقى السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل يخدم التنافس الروسي-الأوكراني في أفريقيا مصالح القارة فعلا؟ الأرجح أن الإجابة لا، ما دامت أفريقيا تُستَخدم ساحةً تكتيكية لتصفية حسابات الآخرين، فيما تُترك مصالح شعوبها على هامش المعادلة.
في هذا الصدد، يرى تحليل لمعهد الدراسات الأمنية (ISS) أن هذا التنافس الروسي الأوكراني تحوَّل إلى “حرب بالوكالة” تتمدد بسرعة، ما يفتح بابا أمام أخطار أعمق على الاستقرار الإقليمي، رغم كل الوعود الروسية بالحماية، وتبشير الأوكرانيين بالرفاه. فإذا ضربنا مثلا بالموقف الأمني، فإن أيًّا من التدخلات الخارجية لم ينجح سابقا في وقف تمدد العنف المسلح الذي يُشكِّل “حزام نار” يطوّق القارة: من حركة الشباب في الصومال، إلى تنظيم الدولة في القرن الأفريقي وموزمبيق ومنطقة البحيرات العظمى والساحل، وصولا إلى تحالف “نصرة الإسلام والمسلمين” الموالي لتنظيم القاعدة في غرب القارة.
لا أدل على ذلك من بيانات المؤشر العالمي للإرهاب الصادر في مارس/آذار الماضي عن معهد الاقتصاد والسلام في مدينة سيدني بأستراليا، الذي وضع 6 دول أفريقية ضمن قائمة البلدان العشرة الأكثر تضررا من الإرهاب خلال عام 2024، وهي بوركينا فاسو ومالي والنيجر ونيجيريا والصومال والكاميرون، التي سجلت مجتمعة نسبة 51% من إجمالي الوفيات عالميا بسبب العمليات الإرهابية.
كما أشار التقرير إلى تنامي ما وصفه بـ”النشاط الإرهابي” في منطقة الساحل الأفريقي خلال عام 2024، مشيرا إلى أن المنطقة أصبحت مركزا عالميا لعمليات الحركات المسلحة بسبب الهشاشة الاقتصادية والتنموية والأمنية وتفشي الفقر وتراجع نسب التعليم.
هذا في الوقت الذي تمركزت في المنطقة عبر عقود قواعد عسكرية أجنبية وأبرمت اتفاقيات أمنية موسعة، وهو ما يطرح سؤالا ملِحّا: إذا كان الحضور العسكري الأجنبي الفرنسي أو الأميركي لم يمنع العنف ولم يجلب التنمية أو الرخاء، فما الذي سيجعل التدخل الروسي أو الأوكراني مختلفا؟ يعني ذلك أنه من منظور نقدي أفريقي، على الدول أن تُعيد حساباتها بميزان مصالحها الوطنية، لا بميزان التحالفات الخارجية. فالأولوية يجب أن تكون لبناء شراكات نافعة ومتوازنة تخدم التنمية والاستقلال، بدل الارتهان لصراعات ليس للقارة فيها ناقة ولا جمل.