في قلب مدينة لاهاي الهولندية، يقع مركز احتجاز فريد من نوعه يحظى باهتمام عالمي واسع، إنه مركز احتجاز الأمم المتحدة، وهو ليس مجرد سجن عادي، بل فضاء مخصص لاحتجاز شخصيات سياسية وعسكرية بارزة متهمة بجرائم دولية جسيمة، بانتظار محاكمتها أمام المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم خاصة سابقة.
وفي السنوات الأخيرة، عاد المركز إلى دائرة الضوء عقب إيداع الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي فيه، بعد اتهامه بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون في سياق الحرب ضد المخدرات.
في هذا التقرير، نستعرض بالتفصيل طبيعة المركز ومكانته، وظروفه التي تجمع بين الحداثة والصرامة، ثم نسلط الضوء على دوتيرتي كنزيل بارز اليوم.
بين العدالة الدولية والتاريخ القضائي
يُعتبر مركز احتجاز الأمم المتحدة في لاهاي مؤسسة فريدة من نوعها تعكس طبيعة العدالة الدولية الحديثة، فمنذ تأسيسه عام 1993 داخل سجن شيفينينغن الهولندي، ارتبط المركز بمحاكمات جرائم الحرب الكبرى، خصوصا تلك المتعلقة بمحكمة يوغوسلافيا السابقة.
وهو اليوم جزء أساسي من منظومة المحكمة الجنائية الدولية، ويُدار تحت إشراف أمينة سر المحكمة بالتعاون مع سلطات السجون الهولندية. ويخضع المركز لمراقبة دورية من اللجنة الدولية للصليب الأحمر لضمان احترام المعايير الإنسانية المنصوص عليها في القانون الدولي.
ومن حيث المكان، يقع المركز في ضاحية شيفينينغن الساحلية التابعة لمدينة لاهاي، على مسافة قصيرة من المقرات القضائية الدولية. هذه الجغرافيا ليست صدفة، بل تعكس إرادة سياسية لتجميع المؤسسات القضائية وأماكن الاحتجاز في بيئة واحدة، تُسهل عمليات النقل والمرافقة الأمنية، وتؤكد الطابع الدولي للمدينة كمركز عالمي للعدالة.
لا يعتبر المركز مجرد سجن محلي تابع لهولندا، بل هو مساحة ذات وضع خاص تخضع لإدارة الأمم المتحدة. وهذا ما يمنحه طبيعة مزدوجة: فهو موجود ماديا داخل منشأة هولندية، لكنه قانونيا جزء من نظام العدالة الدولي.
ووفقًا لتقرير لصحيفة نوس الهولندية بعنوان “سجن شيفينينغن، المنزل الجديد لدوتيرتي”، فإن القوانين المنظمة للمركز تقوم على مبدأ “أدنى قدر ممكن من القيود على النزلاء”، ما يعني أن الهدف ليس العقاب، في حد ذاته، بل ضمان الحبس الاحتياطي لحين انتهاء المحاكمة.
وعلى مدى 3 عقود، مرّ عبر المركز عشرات النزلاء من ذوي الأسماء الثقيلة في التاريخ المعاصر، أبرزهم: رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش، اللذان أُدينا بجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية في البوسنة، كما احتُجز فيه قادة سياسيون وعسكريون من سيراليون ورواندا وكوسوفو.
ولم يكن هؤلاء النزلاء مجرد مجرمين عاديين، بل كانوا أشخاصا مارسوا السلطة على شعوب بأكملها، وارتبطت أسماؤهم بفظائع ما زال صداها يتردد في الذاكرة الإنسانية، وتندرج الجرائم التي يُحتجز بسببها هؤلاء السجناء ضمن أخطر ما يمكن أن يواجهه القضاء في عصرنا الحاضر:
- جرائم الإبادة الجماعية.
- جرائم الحرب.
- الجرائم ضد الإنسانية.
هذا التعدد في القضايا حوّل المركز إلى رمز بارز للعدالة الجنائية الدولية، إذ يلتقي بين جدرانه قادة سياسيون وعسكريون مارسوا نفوذا وحشيا خارج القانون، وتلاحقهم اتهامات بجرائم كبرى تمس الإنسانية جمعاء، لتؤكد أن القضاء الدولي لم يعد حبيس الجغرافيا الوطنية.
وكانت صحيفة ذا تايمز في تقريرها “فندق لاهاي في انتظار رودريغو دوتيرتي” سلطت الضوء على أن هذا السجن لا يستضيف سوى أعداد قليلة جدا في وقت واحد، ما يعكس طابعه الانتقائي.
ويضم حاليا 5 نزلاء فقط، بينهم الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، ورئيس كوسوفو السابق هاشم ثاتشي، إلى جانب 4 من قادة المليشيات الأفريقية.
ويسمح هذا العدد المحدود بإدارة دقيقة لكل سجين على حدة، ويُسهل توفير بيئة احتجاز تراعي المعايير الإنسانية إلى حد بعيد.
لكن ورغم الطابع “المثالي” للظروف المادية، فإن شهادة المدير السابق للمركز تيم مكفادن تشير إلى أن “الملل هو العدو الأكبر للنزلاء”، فالمشكلة لا تكمن في الطعام أو النظافة أو المرافق، بل في إدارة الوقت الطويل وانتظار المحاكمات التي قد تستغرق سنوات. وهكذا يجمع المركز بين صرامة العدالة، وإنسانية الظروف، وثقل الزمن الذي يُعتبر عقوبة بحد ذاته.
“فندق لاهاي” بين الأسطورة والواقع
أطلقت بعض وسائل الإعلام على مركز احتجاز الأمم المتحدة لقب “فندق لاهاي” (Hague Hilton)، في إشارة إلى الظروف المريحة نسبيا مقارنة بالسجون التقليدية.
وقد تناولت صحيفتا ذا تايمز ونوس في تقريريهما السابقين، تفاصيل هذه البيئة، فوصفتا الزنازين والمرافق بما يجعلها قريبة من “غرف فندقية” أكثر منها زنازين تقليدية.
تبلغ مساحة الزنزانة الواحدة نحو 10 إلى 15 مترًا مربعًا، مجهزة بدورة مياه داخلية، ومزودة بجهاز تلفاز مع قنوات كابل وراديو، وهذا المستوى من الخصوصية والراحة ليس شائعًا في السجون الوطنية، ما يعزز صورة “الفندق”.
ويُتاح للنزيل استخدام المكتبة، وصالة رياضية صغيرة (جيم)، وغرف مخصصة للزيارات العائلية، بما في ذلك الزيارات الزوجية، وتوجد في الممرات ثلاجات وماكينات قهوة ومرافق بسيطة للطهي، وهو تفصيل أضافته ذا تايمز كأحد مظاهر “الحياة العادية” داخل المركز.
وتبرز الحرية اليومية داخل المركز بوضوح، فبحسب نوس، تُفتح الأبواب معظم النهار، وتُغلق فقط أثناء استراحة الحراس أو في الليل، ما يسمح للسجناء بالتحرك داخل الجناح والتفاعل فيما بينهم.
وهذا يختلف عن السجون المغلقة التي تُقيّد النزلاء في زنازينهم معظم الوقت، ويعكس هذا النظام فلسفة قانونية تقوم على فكرة أن هؤلاء السجناء لم يدانوا بعد، بل هم متهمون قيد المحاكمة، ويجب أن تُصان كرامتهم الإنسانية.
لكن هل يمكن اعتبار المركز “فندقا” كما تصفه بعض وسائل الإعلام؟ الواقع أن هذا الوصف يحمل بعدا تهكميا؛ فصحيح أن الأثاث والمرافق تبدو مريحة، إلا أن المركز في جوهره يظل سجنا مسوَّرا يخضع فيه النزلاء لإجراءات أمنية دقيقة.
فحتى عمليات النقل إلى المحكمة لا تتم عبر مسار ثابت، بل تُغيَّر يوميا لتفادي أي مخاطر، وهو ما يكفي لتذكير السجناء بأنهم بعيدون كل البعد عن أجواء النزهة السياحية.
ومن حيث الطاقة الاستيعابية، يُقدَّر أن المركز قادر على احتضان حوالي 40 سجينا، لكن الأعداد الفعلية دائما أقل بكثير. ففي العام الجاري، 2025، لا يتجاوز العدد 5 نزلاء، وهو ما يعكس طبيعة القضايا التي يتعامل معها المركز فالمحاكمات قليلة، لكنها ذات رمزية عالية، تستهدف أفرادًا ذوي سلطة سياسية أو عسكرية.
ويسهل العدد المحدود على الإدارة توفير ظروف شبه شخصية، ويَمنح لكل نزيل هامشا أكبر من الخصوصية.
ويكمن الفارق الجوهري بين “الفندق” والسجن في عنصر الحرية، فالزنازين مهما كانت واسعة ومجهزة، تبقى مغلقة ليلا، ويحرم النزيل من أبسط ما يميز حياة الإنسان الحر مثل القدرة على الخروج متى شاء. وهذا ما يجعل شهادات مثل شهادة مكفادن ذات قيمة، فهي تكشف أن “الملل والانتظار الطويل” هما التحدي الحقيقي. فالمكان ليس جنة، بل هو سجن ناعم المظهر قاسٍ في جوهره.
ويخلص التقريران إلى أن صورة “فندق لاهاي” التي يروج لها الإعلام قد تعكس بعض الواقع، لكنها تتجاهل ما يعنيه الحرمان من الحرية، حتى لو كان في أرقى الظروف. وهذا التناقض هو ما يمنح المركز خصوصيته: فهو يجمع بين مظاهر الراحة ومضمون العقوبة.
رودريغو دوتيرتي في انتظار المحاكمة
من بين النزلاء الحاليين لمركز احتجاز الأمم المتحدة، يبرز اسم الرئيس الفلبيني السابق رودريغو دوتيرتي، الذي شكّل وصوله إلى لاهاي حدثا عالميا، فقد اتهمته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم قتل خارج نطاق القانون، في إطار الحرب الدامية ضد المخدرات التي شنها خلال فترة رئاسته بين 2016 و2022.
وكانت الحملة التي أطلقها دوتيرتي ضد المخدرات مثيرة للجدل منذ بدايتها، فقد تبنى خطابا متشددا، دعا فيه الشرطة علنًا إلى “قتل تجار المخدرات” وأكد أنه لن يلاحقهم قضائيا إذا فعلوا ذلك.
وقد ترجم هذا الخطاب على الأرض بآلاف من عمليات القتل التي وصفتها منظمات حقوقية بأنها “إعدامات خارج نطاق القانون”.
وتشير تقديرات مختلفة إلى مقتل ما بين 6 آلاف و20 ألف شخص، معظمهم من الفقراء وسكان الأحياء الهامشية.
وجود دوتيرتي في المركز يطرح مفارقة لافتة، رجل اعتاد أن يُمارس السلطة بلا قيود، لكنه أصبح اليوم يعيش في جناح يخضع لرقابة مشددة. ورغم الظروف المريحة نسبيا التي وصفها الإعلام، فإن الحرمان من الحرية يظل صادمًا لشخصية اعتادت الحركة والتأثير السياسي المباشر.
وتشير صحيفة ذا تايمز إلى أن دوتيرتي قد يجد نفسه النزيل الوحيد تقريبا في جناحه، بعد احتمال نقل بعض النزلاء الأفارقة، وهو ما يزيد من احتمال وضعه في عزلة غير مقصودة.
يُبرز هذا الوضع الجانب النفسي للاحتجاز، فالمشكلة، كما قال المدير السابق مكفادن، ليست في الأكل أو النظافة، بل في مواجهة الزمن الطويل.
وبالنسبة لدوتيرتي، الذي اعتاد وتيرة سياسية صاخبة، قد يكون الملل والفراغ أصعب من أي عقوبة جسدية، وهنا تظهر أهمية البرامج التعليمية والترفيهية التي يوفرها المركز، فهي ليست مجرد رفاهية، بل آلية للحفاظ على السلامة العقلية للنزلاء.
وعلى المستوى القانوني، دوتيرتي ليس مدانًا بعد، فهو في مرحلة الاحتجاز على ذمة المحاكمة وهو ما ينسجم مع فلسفة المركز الذي يضمن معايير عالية لاحترام حقوق الإنسان حتى لأشخاص متهمين بجرائم خطيرة.
لكن مجرد وجود رئيس دولة سابق في هذا السجن يؤكد أن العدالة الدولية قادرة، ولو بشكل استثنائي، على إخضاع أصحاب السلطة للمساءلة، وهو ما يعكس الطابع العالمي المتزايد للمحكمة الجنائية الدولية، التي لم تعد تقتصر على قضايا محددة جغرافيا.
ويجسد أيضًا التوتر بين السيادة الوطنية والعدالة الدولية، فالكثير من أنصاره في الفلبين ما زالوا يعتبرون المحكمة غير شرعية، ويرون أن محاكمته تدخل خارجي في الشؤون الداخلية، لكن مجرد دخوله المركز يؤكد أن النظام القضائي الدولي بدأ يتغلب، ولو جزئيا، على هذه المقاومة.