في منتصف أبريل الماضي، وقبل ثلاثة أسابيع من انقضاء ولاية المستشار الألماني السابق، أولاف شولتس، سافر وفد ألماني إلى باكو في أذربيجان لعقد سلسلة من الاجتماعات السرية مع مسؤولين روس، وخلال وجودهم في مطعم «زافيرانو» بفندق «فور سيزونز» في المدينة، التقى أعضاء الوفد مسؤول حقوق الإنسان والمجتمع المدني والمبعوث الثقافي الدولي للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والتقى أيضاً مع رئيس الوزراء السابق، الذي يترأس شركة «غازبروم»، فيكتور زوبكوف، ويدير تكتل الغاز المملوك للدولة.

وكان من بين الألمان الحاضرين، النائب اليساري البارز من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، رالف شتيغنر، وهو الحزب الذي ينتمي إليه شولتس، وجاء بصفته عضواً في لجنة الاستخبارات في «البوندستاغ»، وأيضاً بصفته ملماً ببعض أكثر أسرار الدولة حساسية في بلاده.

وعلى مدى 20 عاماً، مثّلت هذه اللقاءات المعروفة باسم «حوارات بطرسبورغ» رمزاً للعلاقة المميزة بين برلين وموسكو، وفرصة للمتعاطفين مع روسيا في النخبة الألمانية لتوسيع قاعدة أعمالهم ومعرفتهم بالكرملين.

وكان من المفترض أن تبقى هذه العلاقات الحميمة، طيّ النسيان بعد حرب روسيا الشاملة على أوكرانيا عام 2022، ومع ذلك، يبدو أن التخلص من العادات القديمة أمرٌ صعب للغاية.

هذا الأسبوع، برز شتيغنر من جديد كأحد الموقعين على بيان يدعو إلى تراجع شبه كامل عن «نقطة التحول» في السياسة الخارجية والأمنية الألمانية، خصوصاً تجاه موسكو.

وتدعو الوثيقة، التي أيدها أكثر من 100 سياسي من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلى إجراء مفاوضات مع الحكومة الروسية بشأن إرساء «نظام سلام وأمن جديد لأوروبا» و«العودة التدريجية إلى الوفاق والتعاون» مع روسيا.

وبدلاً من إنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على إعادة التسلح، كما تقول الوثيقة، ينبغي لألمانيا السعي إلى نزع السلاح، ونبذ التصعيد، وتخصيص مئات المليارات الإضافية من الاقتراض العام لمكافحة الفقر وتغير المناخ.

وتضيف الوثيقة أن «هذا ليس وقت (تقريع) الكرملين بشكل أحادي، بل هو وقت سياسة سلام تهدف إلى تحقيق الأمن المشترك، بدءاً من رفض استضافة أي صواريخ أميركية متوسطة المدى على الأراضي الألمانية».

وإلى جانب شتيغنر، يضمّ البيان رولف موتزينيش، الذي كان حتى أسابيع قليلة ماضية، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي في «البوندستاغ» وإحدى أكثر الشخصيات نفوذاً في إدارة شولتس، والزعيم الوطني المشترك للحزب حتى عام 2021، نوربرت فالتر بورجانز، والنائبة البرلمانية الرائدة في مجال سياسة الطاقة، نينا شير.

ويُمثّل البيان هجوماً مباشراً ليس فقط على المستشار من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فريدريش ميرتس، بل أيضاً على شركائه في الائتلاف الحاكم من الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

ويستهدف البيان بشكل رئيس وزير المالية ونائب المستشار، لارس كلينغبيل، ووزير الدفاع، بوريس بيستوريوس، الذي زار كييف، يوم الخميس الماضي، لمناقشة تعزيز المساعدات العسكرية الألمانية لأوكرانيا.

وأسعد هذا الإعلان، حزب البديل من أجل ألمانيا، اليميني المتشدد، الذي يتوق إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية الودية مع روسيا.

وأشار الزعيم المشترك لحزب البديل من أجل ألمانيا، تينو شروبالا، إلى أن هذا الإعلان يُشكل أساساً لائتلاف محتمل بين حزبي البديل من أجل ألمانيا والحزب الاشتراكي الديمقراطي. وقال شروبالا، لصحيفة «بيلد»: «أنا سعيد بانضمام بعض سياسيي الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلينا في مسيرة السلام».

ومع ذلك، أثار هذا الإعلان استياء أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذين يعتقدون أن محاولة بوتين، تدمير بلد بأكمله على حدود الاتحاد الأوروبي، قد صدمت حزبهم أخيراً، وأخرجته من معاداته العسكرية القديمة وعاطفيته تجاه روسيا.

وأعرب أحد مسؤولي الحزب الاشتراكي الديمقراطي، عن قلقه من أن الحزب قد يعود إلى صراعات الثمانينات الداخلية الشرسة، عندما أغضب المستشار الاشتراكي الديمقراطي، هيلموت شميدت، الكثيرين في صفوفه بموافقته على استضافة صواريخ «بيرشينغ 2» الباليستية الأميركية المسلحة نووياً، كجزء من مسعى لإجبار موسكو على التفاوض بشأن الحد من التسلح.

وقال مصدر الحزب الاشتراكي الديمقراطي: «لايزال مقدمو البيان يعتقدون، في العام الثالث من حرب بوتين الشاملة على أوكرانيا، أن حاكم الكرملين يمكن استرضاؤه من خلال تقديم تنازلات». وأضاف: «هذا الوهم القاتل يُقوّض الحكومة المُشكّلة حديثاً، والتي تواجه تحديات هائلة».

ومع ذلك، لم يتضح بعد ما إذا كان البيان يمثل أكثر من مجرد خاتمة لفصيل مسالم في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يجد نفسه الآن مهمّشاً من الائتلاف ويكافح من أجل الحفاظ على مكانته. وينظر بعض مؤيدي كلينغبيل، إلى المبادرة على أنها عمل انتقامي للقسوة التي استولى بها على الحزب.

وفي ظاهر الأمر، يبدو التمرد محدوداً. فبينما لايزال شتيغنر وموتزينيش يتمتعان ببعض النفوذ على يسار الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلا أنهما لم يتمكنا من إقناع سوى ثلاثة نواب آخرين بالتوقيع على بيانهما. ويُعتقد أن مبادراتهما قوبلت بالرفض من قبل عدد من كبار السياسيين الآخرين.

ومعظم الموقعين، القادمين من «دوائر السلام» شبه الرسمية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، هم سياسيون ومسؤولون من الدرجات المتوسطة والدنيا في التسلسل الهرمي للحزب، وكثير منهم متقاعدون.

وخلافاً لهانز آيشل، الذي شغل منصب وزير المالية في عهد المستشار غيرهارد شرودر، صديق بوتين وعراب «صلة ألمانيا بموسكو»، تفتقر القائمة إلى أسماء يمكن حتى للناخب الألماني المطلع على نحو غير عادي أن يتعرف إليها.

ويتمتع غيرهارد شرودر بعلاقة شخصية وثيقة مع بوتين، واستمر في الدعوة إلى نهج أكثر ليونة تجاه روسيا منذ أن ترك منصبه عام 2005. ومع ذلك، لايزال هناك قلق كبير من أن عودة الحركة السلمية قد تُرسّخ الانقسامات في ائتلاف ميرتس وكلينغبيل، وتصبّ في مصلحة حزب البديل من أجل ألمانيا، وتدفع ناخبي الحزب الاشتراكي الديمقراطي ذوي التوجهات السلمية إلى أحضان اليسار الراديكالي.

وقال مصدر في الحزب الاشتراكي الديمقراطي: «الضرر كبير لأن الحكومة هشة»، وأضاف: «لقد راهن كلينغبيل بكل قوته على سعيه الجريء نحو السلطة، فقد خلق أعداءً بين النخب القديمة، الساعية للانتقام. وزاد الإنفاق على التسلح، كما أن خطاب الحرب لا يحظى بشعبية دائمة في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، يجب على كلينغبيل أن يُخمد هذه النيران». عن «التايمز» اللندنية

• على مدى 20 عاماً مثّلت اللقاءات المعروفة باسم «حوارات بطرسبورغ»، رمزاً للعلاقة المميزة بين برلين وموسكو، وفرصة للمتعاطفين مع روسيا في النخبة الألمانية لتوسيع قاعدة أعمالهم ومعرفتهم بالكرملين.

شاركها.
Exit mobile version