فقدت الكويت الزميل صلاح الساير بعد رحلة إعلامية طويلة حافلة بالعطاء، كتب خلالها في «الأنباء» وحدها أكثر من خمسة آلاف و500 مقال لما يربو على ثلاثين عاما، تناول فيها الكثير من الموضوعات في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها، بعين الراصد والناقد وأحيانا واضع الحلول، فكانت زاويته «السايرزم» لسان حال القراء، معبرا من خلالها بكل صدق ووفاء عن شؤون الديرة وشجونها، كما أعد ـ رحمه الله ـ وقدم وأنتج برامج إذاعية وتلفزيونية، أثرى فيها عقول المتابعين، فنال محبة الناس وتقديرهم لعطاءاته وإبداعاته.

مسيرة عطاء

مسيرته مع الإعلام بدأت منذ سنواته الجامعية الأولى، ثم انطلق في رحلته الاحترافية متنقلا بين صحف الكويت محررا وكاتبا ومسؤولا عن العديد من الصفحات المحلية التي نجح فيها وسجلت حضورا مميزا بين القراء، كما نشرت له من الإصدارات كتاب «كراسة سايرزمية» الذي ضم مجموعة من أبرز مقالاته، وكتب أيضا للمسرح «فدوة لك» التي أخرجها الفنان عبدالعزيز الحداد عام 1984، كما أعد وقدم برنامج «حيهلا» عام 1989 لإذاعة الكويت وذلك في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وكان برنامجا يعتمد على السرد والحكايات، واختار له اسما غريبا «حيهلا» وهما كلمتان «حي» و«هلا» تفيدان التعجيل والحث، والبعض يستعملهما للترحيب.

شعر وكاريكاتير

وكانت للراحل أيضا صولات وجولات في عالم الشعر باللغة المحكية، فصدرت له ثلاثة ألبومات شعرية هي: «أحب الكويت»، «ليش خايف»، و«رسمكلام» الذي كان، رحمه الله، يصنفه كألبوم شعري يحوي رسوما كاريكاتيرية معبرة.

وأسس الراحل «مركز الساير للإنتاج»، وعمل كذلك منتجا منفذا في قناة «الواحة الفضائية» بمدينة دبي الإعلامية التي قدم لها برنامج «كشتة» عام 2004، إلا أن حنينه للوطن دفعه ليعود إليه طالا على مشاهدي تلفزيون الكويت عبر برنامج «الكلام عليكم»، الذي قدمه ليكون أول عمل شعري مصور يحمل في طياته مزاوجة بين الدراما والتوثيق، وقدم بعده «أوبريت أحب الكويت» عام 2006، و«الكشاف» عام 2007، وقبلها جميعا أنتج وقدم فيلم «بكاء النوارس» الذي حاز الجائزة البرونزية بمهرجان القاهرة عام 1996.

عشق الكويت والبحر

كان حب الكويت محور أعمال الساير، رحمه الله، كتابة وأداء وإلقاء، فأنتج عنها أعمالا عبرت عن مكنونات حبه لها، مؤكدا فيها أهمية حب الوطن ووحدته وتآخي أبنائه، وكان ـ رحمه الله ـ يصف نفسه دوما بـ «الكاتب المستقل»، فلم يهتم بغبار المعارك والجدالات العقيمة، وكان يعتبر «أن مشكلة الكاتب المستقل، أن الكل يريده شبيها له، وبالتالي لا يقبل به إذا شابه الآخر، ولكن المتعة الحقيقية عنده أن تعبر أنت عما تريد، ولا تكون في الوقت نفسه أداة لأي شخص آخر سوى نفسك».

وعشق، رحمه الله، البحر وزرقته، وأغرم بالصحراء ورمالها، وكان هذان العنصران بمنزلة المكون الأساسي لشعره ونثره وبرامجه، كما استهواه عالم الزراعة بكل تفاصليه، وكان لديه شغف واسع بتربية الإبل.

واحتفى في «بكاء النوارس» بجزيرة «كبر» الواقعة جنوب الكويت، فبادلته الحب جوا صافيا مكنه من إنتاج فيلمه الذي تلون باللون البيئي التوعوي، وأثمرت علاقتهما الجائزة البرونزية في مهرجان القاهرة عام 1996، وفي «الكلام عليكم» ارتقى بعمله التلفزيوني لآفاق جديدة، وفي «الكشاف» كان بحاثا وغواصا في عوالم الشعر والأدب والتراث، منقبا عن أصول المواقع والمناطق وأسمائها، فوضع مواقع الكويت وفقا لمكانتها في التاريخ والجغرافيا بأسلوب مهني ومشوق.

رحلة «الأنباء»

عام 2019 لخص ـ رحمه الله- تجربته مع «الأنباء» قائلا: فترة عملي المديدة مع «الأنباء» لم تمض برتابة، أو بكتابات مائية، لا لون لها أو طعم أو رائحة، بل تخللتها معارك سياسية وأدبية، وخصومات، ومشاغبات، ومواقف صلبة، وأشعار وطنية وغزلية، وكتابات كلما بعثتها للنشر تمنيت أن تكون قد احتوت على معرفة ما، وانطوت على رأي فيه منفعة وخير للناس. وعن بدايات عمله في «الأنباء»، قال، رحمه الله: عملت في أكثر من صحيفة حتى استقر الأمر فيها، حين دعيت إليها، فأتيتها فارسا يجيد الكر والفر واستعمال القلم. وكان ذلك حدثا مهما في حياتي، أن تجري جيادي في مضمار الراحل الكبير، المغفور له بإذن الله، العم خالد يوسف المرزوق، الرجل الذي كنت معجبا به منذ كنت غرا.

ويضيف الساير، رحمه الله: ومضى الوقت وأنا «أنباوي وأفتخر»، وأجتهد في أن أكون ترسا في آلة التفكير اليومي للمجتمع. احترمت من يعارضني الرأي كمثل من يوافقني. كان همي، ولم يزل، حث القارئ على التفكير في الضفة الأخرى والخروج من الصندوق. فطوال سنوات عمله في «الأنباء» حافظ، رحمه الله، على سمو الكتابة وشرف المهنة وأمانة القلم.

الكويت.. موطن الشجعان الصناديد

كان الفقيد صلاح الساير، رحمه الله، محبا للكويت، مقدرا لتضحيات أهلها، فخورا بتاريخهم ومهاراتهم وعطائهم في جميع المجالات، ومن المقالات التي تغنى بعشقه لأرضها وطنا ولشعبها أهلا، مقال نشر بتاريخ 20 يونيو 2019.

«في حب الكويت»

  • بقلم: صلاح الساير

مذ كانت هذه البقعة الصغيرة التي تدعى الكويت وهي موطن الشجعان الصناديد الذين يتقنون العيش في جوف الخطر. وما كانت هذه الأرض موئلا للجبناء الخوافين الذين يزمن الرعب في مفاصلهم أو تسكن الرعدة بين أضلاعهم.

فالأماجد البواسل الذين اختاروا العيش في أرض بلقع ظمأى يشح فيها الماء كانوا واثقين من قدرتهم على مواجهة قسوة الطبيعة وصناعة الحياة، مثلما كانوا واثقين من مهارتهم باعتلاء صهوة الأمواج وعبور البحار والمحيطات وبلوغ المرافئ القصية رغم القلق الذي كان يعتصر قلوبهم على أهلهم (المستضعفين) الباقين في الديرة المخبوءة في أحضان الجون.

***

تاريخ الأسوار الثلاثة التي شيدها الأجداد حول مدينتهم الصغيرة يشي بقدرتهم على التعايش مع «القلق الأمني» الذي رغم حضوره الطاغي في الوجدان الشعبي فإنه لم يمنع الكويتي من الكفاح والتفرد والسعي إلى تحويل مدينته البائسة إلى ميناء عظيم. وكأن قدر الكويتيين العيش على حد السيف.

يتقنون العمل والأمل والبناء والغناء في ظلال الخطر. هاجمتهم الأوبئة، والغزاة، وأسماك القرش، والأتربة، وغرقت سفنهم بفعل الرياح العاتية، فاحتملوا وصبروا (وكلما زادت المحن، حولها، أو قسا الزمن.. أصبح الناس كلهم غنوة في فم الوطن) حسب قول شاعر الكويت الكبير الراحل عبدالله العتيبي.

***

مثلما نزح من الكويت بعض أهلها وقت الاحتلال الصدامي، عاد إليها من أبنائها من صدف تواجدهم خارجها آنذاك. نعم، عادوا نساء ورجال وعاشوا فيها تحت أو «رغم» الاحتلال. فما أرعبهم الغزو ولا أبقاهم بعيدا عن موطنهم. وفي جعبة كاتب هذه الكلمات قصص وحكايات وشهادات كثيرة.

فالكويت الوديعة ربيبة الخطر، وحمامة سلام ترقد في عش النسور، مذ تخلقت. إنها إكليل نصر على جباه العز، وقلادة شرف على الصدور المؤمنة. أما حرائر الكويت فمثل رجالها الأبطال. الجميع على استعداد لدفع ضريبة الوطن، والذود عن أمن الخليج. لن توقفهم إشاعة أو أكاذيب يروجها المرجفون بغرض نشر الذعر بين الناس.

«الأنباء» – 20/6/2019

فقيد الإعلام الزميل صلاح الساير في لقطات من برامجه التلفزيونية

 

 

شاركها.
Exit mobile version