في علم النفس، هناك متطلبان أساسيان، كل منهما منفصل عن الآخر، حتى ينجح شخص ما في التخلص من سلوك غير مرغوب. أولاً، يحتاج هذا الشخص لوعي ذاتي يدرك من خلاله وجود مشكلة، وثانياً، يحتاج هذا الشخص إلى مهارات إدارة للذات للتصرف على أساس هذه المعرفة. ويعد التحلي بالمتطلب الأول دون إتقان الثاني أسوأ من عدم التمتع بأي منهما، فهو إدراك مؤلم لعيب يمتد إلى الأبد.
وإذا ما طبقنا ذلك على البلدان بدلاً من الأشخاص، وانتقلنا إلى العلات المجتمعية بدلاً من العيوب الشخصية، فأخشى أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية عالقة في هذه المعضلة حينما يتعلق الأمر بالتفاوتات في الدخل.
ثمة جدالات حامية الوطيس حول مدى تنامي اللا مساواة في الدخل بالولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، لكن ما لا شك فيه هو أن انعدام المساواة أوسع في أمريكا من أي دولة متقدمة أخرى. ويتفق الأمريكي العادي مع هذا الطرح، إذ يصف واحد من بين كل خمسة أمريكيين توزيع الدخل الأمريكي بأنه «غير عادل للغاية»، وهي نسبة أعلى من أي دولة غربية ثرية أخرى.
لكن، بحسب ورقة عمل جديدة مثيرة للدهشة، ففي حين أن الأمريكيين ربما يدركون مشكلة انعدام المساواة التي تلم ببلدهم، فإن رغبتهم في ضرورة القيام بشيء ما تجاه الأمر تقل عن رغبة نظرائهم في البلدان الغربية الأخرى. والأكثر إثارة للدهشة، أن تسليط الضوء على مدى اتساع اللا مساواة على المستوى الوطني لم يكن له أي تأثير على رغبة الأمريكيين في تضييق هذه الفجوات، بل في واقع الأمر، فإنه يقلل من الرغبة في إعادة التوزيع، بينما في بلدان غربية أخرى، تحفز مثل هذه الأمور على مزيد من الدعوات لإعادة التوزيع.
وفحصت الدراسة، التي قادها بيبر كولبيبر، أستاذ الحكومة والسياسات العامة في كلية «بلافاتنيك» للإدارة الحكومية بجامعة «أوكسفورد»، الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وفرنسا وألمانيا وسويسرا. واطلع أشخاص في هذه البلدان على مقال صحافي استخدم بيانات عن انعدام المساواة، تفيد بأن النظام الاجتماعي في بلدانهم فاسد. وأدت قراءة المقال في خارج الولايات المتحدة، إلى زيادة الاعتقاد بأن المجتمع منقسم إلى موسرين ومعسرين، وتعزيز الدعم لإعادة توزيع الثروة. أما في الولايات المتحدة، فلم تسفر قراءة المقال عن أي من هاتين النتيجتين.
ما السر إذن وراء هذه الاستثنائية؟، اعتقد أن هناك ديناميكيتين تؤثران على ذلك. الأولى، تتمثل فيما أطلق عليه جانبي الحلم الأمريكي، إذ تظهر البيانات أن الأمريكيين يعتبرون أنفسهم أكثر قدرة على الترقي الاجتماعي مقارنة ببلدان غربية أخرى (في حين أن العكس صحيح)، وهم أكثر ترجيحاً أن يقولوا إن العمل الكادح ضروري للمضي قدماً في الحياة، وهذه اعتقادات طموحة وتعلي من قيم الجدارة والاستحقاق، غير أن الوجه الآخر يتمثل في أن الأمريكيين هم الأكثر ترجيحاً أيضاً للقول إن ذوي الدخل المنخفض مطالبون بالارتقاء بأنفسهم اعتماداً على النفس وليس على الآخرين.
وإذا كان الأمريكيون ينظرون إلى الدخول المفرطة من زاوية الطموح وليس الغضب مقارنة بنظرائهم في بلدان أخرى، فربما يفسر ذلك ردود أفعالهم على قراءة المقال حول انعدام المساواة. وإذا كانت رؤية انعدام المساواة مكافئة لرؤية الفرصة، فالحلم الأمريكي إذن يجعل المجتمع أكثر تسامحاً مع التفاوتات الكبيرة.
الديناميكية الثانية، والتي سلط كولبيبر الضوء عليها هو والمؤلفون المشاركون، تكمن في عدم ثقة الأمريكيين في الحكومة، واعتقادهم بصفة خاصة بأن الحكومة تفتقر دائماً للكفاءة. وبدا ذلك جلياً عندما قال رونالد ريجان، للأمريكيين، في خطاب تنصيبه رئيساً في 1981، أي منذ 42 عاماً، أن «الحكومة ليست الحل لمشكلاتنا، الحكومة هي المشكلة»، ويبدو أن الأمة أخذت كلماته منذ ذلك الحين على محمل الجد.
ورغم كون الأمريكيين الأكثر ميلاً للقول إن انعدام المساواة في الدخل في بلدهم أمر غير عادل، فإن أقل من نصفهم يعتبرون الحكومة مسؤولة عن معالجة ذلك. ويأتي هذا مقابل الثلثين أو أكثر في المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا. وفي حين ترى مجتمعات أخرى انعدام المساواة أمراً يلحق بالناس وتجب معالجته عن طريق تقديم المساعدة لهم، فإن الأمريكيين يرونه أمراً يتحمل الناس مسؤوليتهم فيه بأنفسهم.
تكمن المأساة هنا في أن الحلم الأمريكي يواصل خذلان الكثيرين، حيث تواجه الولايات المتحدة صعوبة مع الفقر المدقع أكثر من أي من البلدان الخمسة التي تتسم بمواقف أكثر جماعية. وذكر برنامج المسح الاجتماعي الدولي «آي إس إس بي»، أن الأمريكيين هم الأكثر احتمالية لأن يقولوا إنهم فوتوا تناول وجبة ما لأن ليس لديهم ما يكفي من المال لشرائها. وأيدت هذه النتائج، نتيجة أخرى توصل إليها البرنامج الدولي لتقييم الطلبة «بي آي إس إيه»، مفادها أن واحداً من بين كل ثمانية أطفال أمريكيين يفوت وجبة لمرة على الأقل شهرياً.
كل ذلك يسلط الضوء على واحد من التوترات الأساسية داخل المجتمع الأمريكي، وهو: هل الثراء الفاحش والفقر المدقع وجهان للعملة ذاتها؟، لا ريب في أن ثقافة الطموح والمسؤولية الشخصية هي المحركة لريادة الأعمال وتوليد الثروة، لكنها أيضاً ترسخ اللامبالاة بشأن انعدام المساواة، وخصوصاً تجاه التدخل الحكومي، مما يترك الأكثر فقراً وحدهم لمسؤولية تدبير أمورهم.