غزة- يحمل الطفل منذر عبد الحي (12 عاما) مفتاحا حديديا يفوق كفه حجما، يقلبه بحذر بين يديه الصغيرتين في ورشة إصلاح سيارات مهملة بخان يونس، جنوبي قطاع غزة، وحوله تتعالى أصوات المطرقة، وتمتزج روائح الزيت والوقود الفاسد.
كان مكانه الطبيعي بين الصفوف ودفاتر المدرسة، لكنه وجد نفسه وسط براغٍ وشحوم، في محاولة يائسة لمساعدة أسرته على مواجهة أهوال الحرب وتكاليف الحياة.
أطفال في الورشة
منذ أكثر من 22 شهرا، ترزح غزة تحت وطأة حرب إبادة إسرائيلية قاسية، حيث قُصفت المدارس وتحولت إلى ملاجئ للنازحين، وأصبح التعليم أقرب إلى حلم بعيد.
في مواجهة هذا الواقع المؤلم، فتح المواطن غازي النجار (أربعيني) باب ورشته الصغير لطفليه، محاولا أن ينقذهما من شوارع خان يونس التي لا ترحم. ويقول بصوت يئن من ثقل الألم “أتيت بأولادي إلى الورشة بدل أن يتيهوا في الشوارع”.
يعلّم غازي أولاده إصلاح إطارات السيارات، لأنه لا يستطيع دفع أجر عامل في ظل هذا الغلاء الذي يضرب القطاع بعد نحو 22 شهرا من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة “فالأسعار ارتفعت 50 ضعفا، ما كان يباع بشيكل أضحى بخمسين. وأولادي يساعدونني على تحمل تكاليف العيش”.
ورغم صعوبة الحال، يحتفظ بالحلم “لو توقفت الحرب وعادت المدارس، سأرسل أولادي إلى المدرسة. أتمنى أن يصبحوا أطباء ومهندسين”.
دمار التعليم
تشير إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) إلى دمار واسع في قطاع التعليم خلال العام الأول من الحرب:
- أكثر من 70% من المدارس تضررت بشكل كلي أو جزئي جراء القصف الإسرائيلي المستمر، ويقدّر عدد المدارس المدمرة كليا بـ390 مدرسة تابعة للأونروا.
- أما المدارس التي لم تُقصف فقد تحولت إلى مراكز إيواء مزدحمة بعشرات آلاف النازحين، ما جعل العملية التعليمية شبه متوقفة.
يقول النجار للجزيرة نت “لا شيء في غزة بقي على حاله. حتى طفولة أبنائنا لم تسلم من الحرب”.
يتحدث ابنه أمير (12 عاما) ببراءة تخالطها قسوة التجربة، ويقول “أساعد أبي في الورشة كل يوم. أقوم بفك عجلات السيارات، وأرفع المركبة، وأغير الإطارات وأملؤها بالهواء”.
يمسح يديه الملطختين بالشحم بملابسه البالية، ثم يواصل حديثه للجزيرة نت “كنت أحب مدرستي كثيرا، لكن الحرب دمرتها. الآن أقضي وقتي بين الأدوات الثقيلة ورائحة الزيوت. أعرف أن مكاني الطبيعي هو الصفوف، لكننا لا نملك خيارا آخر. نحن نعمل كي نوفر الطعام”.
تلمع عيناه بحزن وهو يقول “أصدقائي بعضهم نزحوا وفقدوا بيوتهم. بعضهم يجلسون بلا تعليم ولا عمل. أنا على الأقل أساعد والدي وأتعلم مهنة، لكنني أشتاق إلى دروسي وإلى أن أكون تلميذا عاديا مثل باقي الأطفال”.
الاحتلال السبب
أما شقيقه الأصغر يوسف (10 أعوام)، فتحدث بوعي يفوق عمره، وقال “أريد أن أترك هذا العمل الشاق وأعود إلى المدرسة. أريد أن أصبح مهندس سيارات”.
يتوقف ليلتقط أنفاسه قبل أن يضيف للجزيرة نت “الاحتلال هو السبب في حياتنا هذه. لو أنهم تركوا غزة وعاد التعليم حتى وسط الركام، لذهبت فورا إلى المدرسة. لكنهم دمروا حقنا في الحياة والدراسة”.
ثم يبتسم ابتسامة باهتة “لن نستسلم. سأعمل هنا الآن، لكنني سأعود إلى دراستي يوما ما. سأجمع بين المهنة والعلم، وسأحقق حلمي”.
وفي العام الثاني للحرب، أشار تقرير لمنظمة اليونيسيف إلى أن نسبة 95% من المدارس في قطاع غزة قد تضررت أو دُمّرت كليا أو جزئيا، منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى 25 يوليو/تموز 2025. وهو ما أدى إلى حرمان ما يقارب 658 ألف طفل من حقهم في التعليم النظامي لأكثر من عامين متتاليين.
فيما أوضحت تقارير صحفية دولية أن أكثر من 650 ألف تلميذ في غزة وجدوا أنفسهم بلا مدارس، بعد أن تحولت معظم الأبنية التعليمية إلى مراكز إيواء مكتظة بالنازحين، فيما تعطلت العملية التعليمية بشكل شبه كامل. ولفتت إلى أن “الانقطاع المتواصل عن الدراسة لا يهدد فقط مستقبل الأطفال، بل يفاقم حالة التهميش والضياع لجيل كامل”.
أخطر إفرازات الحرب
يقول يوسف عوض الله، أخصائي علم النفس التربوي العامل مع منظمات دولية في غزة، للجزيرة نت، إن ظاهرة عمالة الأطفال في غزة آخذة في الاتساع، ويصفها بأنها “واحدة من أخطر إفرازات الحرب”.
ويقول “حين يُدفع الأطفال إلى سوق العمل الشاق، فإننا نخسر جانبين؛ نخسر تعليمهم ومستقبلهم الأكاديمي، ونفقد في الوقت ذاته براءتهم وطفولتهم”.
ويضيف “العمل في الورش والمهن الشاقة يعرّض الأطفال لمخاطر جسدية كبيرة، مثل الإصابات وفقدان الأطراف، فضلا عن الأثر النفسي المتمثل في الشعور المبكر باليأس والحرمان”.
ويحذر الخبير التربوي من أن جيلا كاملا في غزة مهدد بأن ينشأ بعيدا عن مقاعد الدراسة، ما قد يؤدي إلى فجوة معرفية وتعليمية عميقة لن يسهل ردمها لاحقا.
ويشدد على أن “إعادة بناء المدارس واستئناف العملية التعليمية يجب أن تكون أولوية قصوى بعد توقف الحرب، لأن التعليم هو خط الدفاع الأخير عن هوية هذا الشعب ومستقبله”.
ويوضح “لا يمكن معالجة الظاهرة إلا بإنهاء الحرب أولا، ورفع الحصار ثانيا، ثم إعادة إعمار المدارس وتوفير دعم اقتصادي للأسر الفقيرة حتى لا تضطر لإرسال أطفالها إلى العمل”.
ويختم “أطفال غزة ليسوا عمالا بالفطرة، إنهم ضحايا حرب ممنهجة تستهدف كل ما هو حي في هذا القطاع”.