استضافت العاصمة الفرنسية باريس، الأسبوع الماضي، الاجتماع الذي أطلق عليه «ائتلاف الراغبين»، حيث كان من المفروض أن توافق 26 دولة على القوة العسكرية التي سيتم نشرها على الأراضي الأوكرانية بعد انتهاء الحرب فيها.

وقبل ثلاثة أسابيع، وخلال المؤتمر الصحافي الذي انعقد في قمة «قادة إنكوريج» بولاية آلاسكا الأميركية، مع الرئيس دونالد ترامب، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن أمن أوكرانيا يجب أن يكون مضموناً كجزء من أي تسوية يتم التوصل إليها عبر المفاوضات، لكن المسؤولين الروس كرروا على نحو متواصل أن ذلك لا يمكن أن يتم على شكل قوات عسكرية قتالية في أوكرانيا.

وقبيل اجتماع الأسبوع الماضي في باريس، رفع بوتين سقف مطالبه، حيث أعلن أن مثل هذه القوات ستكون هدفاً شرعياً للقوات الروسية.

ويبقى السؤال المطروح مفاده: لماذا يصر القادة الأوروبيون على خطة إذا تم تنفيذها ستضعهم في حرب مباشرة مع أكبر قوة نووية في العالم؟ وهنا يبدو الجواب مثيراً للقلق.

يتمثل أحد الاحتمالات في صدقية التهديدات الروسية، فقد انخرط بوتين في إرسال إشارات نووية في وقت مبكر، عند بداية الحرب في أوكرانيا، ومرة أخرى بعد مواجهة نكسات عسكرية في خريف عام 2022، وعلى الرغم من نجاح هذه الإشارات في ردع الغرب عن التدخل مباشرة في الحرب، فإن الاعتقاد بأن الدول الغربية يمكنها تجاوز الخطوط الحمراء الروسية دون تعريض نفسها لرد نووي، ربما أدى إلى تقليل قوة الردع للتهديدات اللاحقة.

وثمة احتمال آخر مفاده الأسلوب المعياري الراسخ للغرب إزاء القضايا الأمنية في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، وقد أعرب عن وجهة النظر هذه قبل بضعة أيام، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، مارك روته، عندما أكد أن موسكو لا يمكن أن يكون لها سلطة «الفيتو» في حق كييف على سيادتها لقبول القوات الأجنبية على أراضيها.

ويعد حق الدول في اختيار ترتيباتها الأمنية بحرية، أحد المبادئ التي أوردها «ميثاق باريس» الذي يمثل نهاية الحرب الباردة، لدعم وجهة النظر العالمية هذه.

وبالطبع، فإن تبادل هذه المبادئ مع دول الاتحاد الأوروبي لم يكن له أثر كبير لمنع روسيا من تولي زمام الأمور بنفسها في فبراير عام 2022، كما أن الجهود المبذولة من قبل لحرمان روسيا من حق الرفض «الفيتو» من حيث المبدأ، مثل «قمة بوخارست 2008» التي تم فيها دعوة جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف، أنذرت بقيام روسيا بإعلان الحرب على جورجيا بعد بضعة أشهر من القمة.

يتجاهل المدافعون المتحمسون عن «حق الاختيار»، مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، الوارد أيضاً في «ميثاق باريس»، والذي يؤكد أنه لا ينبغي لأي دولة اتخاذ تدابير لتعزيز أمنها على حساب أمن دولة أخرى، وهم يقللون من أهمية الحقيقة التي مفادها أن عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي هي قضية يقررها أعضاء «الناتو» أنفسهم وليس كييف.

وإذا وضعنا هذه الاعتبارات جانباً، فما التفكير الاستراتيجي وراء النهج الأوروبي؟

على الرغم من الاقتراحات المتناقضة التي يطرحها البعض، فإن أي قوة مطمئنة لن يتم نشرها في أوكرانيا بعد انتهاء الحرب.

وبناء عليه، إذا لم تكن الخطط التي لاتزال الآن قيد البحث، بمثابة انطلاق للتفاوض مع موسكو، فإن الإصرار على نشر القوات الغربية على الأراضي الأوكرانية، في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، سيكون بمثابة حافز لروسيا لمواصلة القتال، لمنع تحقيق نشر هذه القوات.

كما أن مواصلة الإصرار على وجود القوات الغربية على الأراضي الأوكرانية، على الرغم من إصرار الروس على رفضها، يوحي بأن الدعوات الغربية لوقف إطلاق النار ليست صادقة بالمطلق، بل يشوبها الكثير من الشكوك.

وفي واقع الأمر، فإن القادة الأوروبيين لم يعربوا عن دعمهم لوقف الحرب قبل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، فقد بدأوا الحديث عن وقف هذه الحرب، بعد أن أقنع ترامب، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بأن يدعو إلى وقف لإطلاق نار غير مشروط لمدة 30 يوماً.

ولم يترك هذا الاقتراح للدول الغربية الكثير من الخيارات وإنما الانصياع، نظراً لاعتماد أوروبا الشديد على الولايات المتحدة في أمنها، ونظراً إلى أن روسيا لن تقبل بأي وقف لإطلاق نار غير مشروط، قبل تحقيق أهدافها السياسية، فإن الدعوة لهذا الوقف بلا شروط يخدم الهدف التكتيكي الذي يصور موسكو باعتبارها العقبة الرئيسة في وجه السلام.

ومع وضع هذه الحقائق في الحسبان، تبدو الدعوات الأوروبية لوقف إطلاق النار ليس من منطلق القناعة، وإنما من منطلق المصلحة، وقد يكون الهدف الحقيقي للخطط التي تطرحها الدول الأوروبية لنشر قواتها بعد وقف الحرب على الأراضي الأوكرانية، لتقويض أي احتمال لقيام مفاوضات ناجحة لوضع نهاية لهذه الحرب.

ويتلاءم ذلك مع سمات أخرى للنهج الأوروبي الحالي، مثل التهديد بفرض مزيد من العقوبات ضد روسيا، دون تقديم أي عروض حقيقية لتخفيف هذه العقوبات ستكون بمثابة محفزات لروسيا لوقف الحرب.

ويبدو أن هذه الخاتمة ليست مفاجئة، وعلى الرغم من أن أوكرانيا قد تكون هي الخاسرة في ميدان المعركة، فإن النخبة الأوروبية في هذه الأيام تعتقد إلى حد كبير أن التوصل إلى «اتفاق سيئ» لوقف الحرب سيكون أسوأ من استمرار الحرب ذاتها.

وربما يعتقد الأوروبيون أن أوكرانيا ستكون قادرة على الصمود لفترة أطول، بحيث تكون كافية لتكبيد روسيا خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات، ما يؤدي إلى انهيار اقتصاد موسكو، أو ربما أنهم يخشون من تعريض السلام مع روسيا للخطر.

والأمر الأسوأ من ذلك أنه حتى لو اخترقت روسيا الخطوط الدفاعية الأوكرانية، فإن ذلك سيؤدي إلى تعزيز الوحدة الأوروبية، وفي نهاية المطاف يدفع الدول الأوروبية إلى مزيد من الإنفاق على الدفاع، ولن تكون موسكو قادرة على حكم أوكرانيا المضطربة.

هنا يجب على القادة الأوروبيين التفكير جيداً قبل التمسك بهذا المنطق، إذ يمكن أن تؤدي مذكرة التفاهم بشأن خط أنابيب «الطاقة في سيبيريا 2» الذي تم تنفيذه، إلى تعزيز الحلف الروسي الصيني على المدى البعيد، عن طريق شحن الغاز من غرب سيبيريا، والتي كانت مخصصة للأسواق الأوروبية، وإضافة إلى التصعيد العسكري، فإن حرباً مطولة وما يصاحبها من تمزق في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وبقية دول أوروبا، ستؤدي إلى عواقب استراتيجية لم يتم حسمها بعد، ومن الأفضل تجنبها.

ستكون روسيا عدوة للغرب بصورة جماعية خلال المستقبل المنظور، لكن تحقيق النجاح في عالم متعدد الأقطاب يتطلب تشكيل تكتل استراتيجي مع جميع أقطاب القوة الموجودة فيه، ولا يحتاج العالم المؤلف من الكتل الجامعة لأن يكون نبوءة تتحقق بذاتها، ويمكن أن يؤدي العالم المؤلف من كتل دولية متصلبة إلى تقويض بقاء «النظام العالمي المستند على القوانين»، ما يؤخر الاتفاقات المتعلقة بسلامة أراضي أوكرانيا وبداية المهمة الشاقة المتمثلة بإعادة بناء المشاعر المشتركة للأمن في أوروبا. عن «رسبنسبل ستيتكرافت»

• «ميثاق باريس» يؤكد أنه لا ينبغي لأي دولة اتخاذ تدابير لتعزيز أمنها على حساب أمن دولة أخرى.

• النخبة الأوروبية تعتقد أن التوصل إلى «اتفاق سيئ» لوقف الحرب سيكون أسوأ من استمرار الحرب ذاتها.

شاركها.
Exit mobile version