لفترة من الزمن، بدا الإجماع البيئي البريطاني راسخاً، وخلال العقد الثاني من القرن الـ21 وحتى أوائل عشريناته، تصارع «المحافظون» و«حزب العمال» على من الأكثر حرصاً على إزالة الكربون من البلاد، وبدا الجمهور متحمساً أيضاً، طالما أن توربينات الرياح لن تزعجه.

ومن بين الإجراءات القليلة الحاسمة التي اتخذها حزب العمال في عامه الأول المضطرب في الحكومة، خطة طموحة لتحويل شبكة الكهرباء إلى «شبكة خضراء» بحلول عام 2030، أي قبل نصف عقد من هدف حزب المحافظين، وأسرع من أي دولة كبيرة أخرى.

لقد انهار هذا التناغم في وقت يصف المحافظون الآن أهداف المناخ التي توصلوا إليها بأنها «مستحيلة»، فيما تتقدم حركة «إصلاح» – التي تسعى إلى إلغاء الدعم البيئي – في استطلاعات الرأي، أما رئيس الوزراء العمالي السابق، توني بلير، فحذّر من أن استراتيجية بريطانيا المناخية «محكوم عليها بالفشل».

ووراء هذا القلق تكمن حقيقة قاسية: أصبحت أسعار الكهرباء البريطانية باهظة الثمن. ولعقود نادراً ما ابتعدت هذه الأسعار عن أسعار بقية دول أوروبا، أما الآن فقد أصبحت فواتير المنازل أعلى بنسبة 20% من متوسط أسعار الاقتصادات الأوروبية الكبرى، وفواتير الصناعة أعلى بنسبة 90%، أما الفجوة مع أميركا فأشد وضوحاً.

الغاز وسعر الكهرباء

وبدأت مشكلات بريطانيا عندما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي مع بدء الحرب في أوكرانيا، وأدى ذلك إلى ارتفاع تكاليف الكهرباء في جميع أنحاء أوروبا، لكن بريطانيا تضررت بشدة، ومنذ أن أبعدت الفحم عن الشبكة في العقد الأول من القرن الجاري، كان الغاز (كمنتج هامشي) هو الذي يحدد سعر الكهرباء دائماً تقريباً.

وفي فرنسا، عادة ما تكون الطاقة النووية هي التي تحدد الأسعار، وفي ألمانيا غالباً ما يكون الفحم هو المحدد، أما في بعض البلدان فتهيمن الطاقة الكهرومائية، ونادراً ما تفعل الرياح والطاقة الشمسية ذلك، إذ يختلف إنتاجهما كثيراً بحسب الطقس، وعادة ما تحتاج الشبكات إلى بعض الطاقة من مكان آخر.

وفي غضون ذلك، بدأت جهود بريطانيا في استخدام الطاقة النظيفة تؤثر في الفواتير، ذلك أن دفع تكاليف الأبراج والأسلاك الجديدة التي ستربط شبكة أكثر تعقيداً، حيث تولد الطاقة في جميع أنحاء البلاد، يرفع تكاليف الشبكة.

وكذلك الحال بالنسبة لـ«موازنة التكاليف»، حيث تُدفع للمولدات لتخفيف تقلبات مصادر الطاقة المتجددة، ويُشكّل التزام الطاقة المتجددة، (وهو نظام دعم أُلغي في منتصف العقد الأول من القرن الجاري، مع استمرار المدفوعات حتى أواخر ثلاثينات هذا القرن)، أكثر من عُشر متوسط الفاتورة.

ومنذ عام 2019، أسهمت الإعانات الخضراء وتكاليف الشبكة (بما في ذلك بعض النفقات الجديدة غير المرتبطة بدفع الطاقة النظيفة)، بنحو ثلثي ما أسهمت به أسعار الجملة للكهرباء، وفي الارتفاع الحقيقي للفواتير، ومن المتوقع أن يستمر كل منهما في الارتفاع، بدورها تُمثّل «أسعار الكربون» التي تدفعها مولدات الغاز ربع كلفة الجملة تلك، وهي حصة قد تزداد بمجرد أن تربط بريطانيا نظام تداول الانبعاثات الخاص بها بنظام أوروبا الأكثر كلفة، وتسعير الكربون هو الطريقة التي تُستخدم للحد من انبعاثات الاحترار العالمي، وتفرض على أولئك الذين يتسببون في انبعاث ثاني أكسيد الكربون.

طاقة الرياح

للأسف، اضطرت بريطانيا أيضاً – بسبب سوء الحظ الجغرافي وسوء التنظيم – إلى الاعتماد على طاقة الرياح البحرية، وهي طاقة أكثر كلفة وخالية من الكربون، لتكون العمود الفقري لشبكتها المجدّدة، وأصبحت الألواح الشمسية رخيصة للغاية، ما يُحدث تحولاً جذرياً في اقتصاديات الطاقة في المناطق الأكثر حرارة في العالم، لكن بريطانيا تحصل على قدر أقل من أشعة الشمس وتستهلك معظم طاقتها في الشتاء، ويعني التنظيم المُفرط في التشدّد ارتفاعاً حاداً في تكاليف وجداول محطات الطاقة النووية، وغالباً ما تُمثّل طاقة الرياح البرية معركة شرسة مع معارضيها الذين يرفضون بناء توربينات في أراضيهم.

وتكمن المشكلة في أن أسعار طاقة الرياح البحرية لم تعد تنخفض، كما يبدو أن أسعار «الخلايا الشمسية» التي تُصنع في المصانع وتُبنى بشكل معياري، لاتزال تنخفض مع الإنتاج الضخم، أما التوربينات البحرية البالغ طولها ناطحات السحاب، فهي أشبه بمشروعات الهندسة المدنية، فالتوربينات الأكبر حجماً أكثر كفاءة، لكن نقلها وتركيبها أصعب.

وتشتري بريطانيا «طاقة الرياح البحرية»، كغيرها من مصادر الطاقة المتجددة، من خلال عقود خاصة، وبموجب هذا النظام، تعد الحكومة موردي الكهرباء بسعر ثابت، يرتفع مع التضخم، لمدة تراوح بين 15 و20 عاماً، وإذا كانت الأسعار السائدة أقل، تدفع الحكومة الفرق، وإذا كانت أعلى، تدفع شركات توليد الكهرباء للحكومة.

وكانت أرخص جولة لعقود «طاقة الرياح البحرية» في عام 2022، أما الجولة التي تلتها في عام 2023، فلم يكن بها أي مزايدين، إذ حددت الحكومة سقف سعرها منخفضاً للغاية، وارتفعت الأسعار في مزاد عام 2024.

وتأتي جولة عام 2025 في أغسطس، بسقف سعر أعلى من ذلك، وكان أحد آمال مخطط الحكومة هو أن يؤدي الدعم الثابت للمشروعات الجديدة إلى خفض التكاليف قبل اكتمال معظم عمليات البناء، ونجح ذلك في البداية، لكن التقدم توقف.

مقياس انتخابي

والآن تحتاج بريطانيا إلى شراء كميات كبيرة من «طاقة الرياح البحرية» وبسرعة، لتحقيق أهدافها في مجال الطاقة النظيفة.

وكل هذا يجعل سياسات «تخضير» الشبكة الكهربائية محفوفة بالمخاطر، ويقول وزير الطاقة، إد ميليباند، إن متوسط فواتير الكهرباء السنوية ينبغي أن ينخفض بمقدار 300 جنيه إسترليني، بحلول عام 2030، ومن دون انخفاض أسعار الغاز، يبدو أنها سترتفع على الأرجح، وفي الوقت الحالي، تحظى إزالة الكربون بشعبية، ولايزال إلقاء اللوم على الحرب في أوكرانيا في ارتفاع الأسعار مجدياً، لكن هذا الدعم يبدو هشاً.

وتشير استطلاعات رأي أجرتها شركة «مور إن كامن» لمصلحة مجلة «الإيكونوميست»، إلى أن فواتير الطاقة هي أهم مقياس سيستخدمه الناخبون عند اتخاذ قرار إعادة انتخاب حزب العمال، وتتضاءل الحماسة للعمل المناخي في الاستطلاعات بسرعة إذا كلف الأمر عشرات الجنيهات الإضافية شهرياً.

وفي هذه الأيام، انبعاثات الكربون في بريطانيا ليست بعيدة عن الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة، وبالتخلص التدريجي من الفحم بهذه السرعة، نجحت المملكة المتحدة فعلاً في خفض الانبعاثات بنسبة تفوق أي دولة غنية أخرى. عن «الإيكونوميست»


مخاطر معاكسة

يكمن الرهان وراء جهود الطاقة النظيفة الحالية، في أن بريطانيا قادرة على أن تكون رائدة، وأن تُظهر كيفية إزالة الكربون من الشبكة بسهولة، حتى من دون طاقة شمسية رخيصة، لكن أخذ هذا الاحتمال على محمل الجد يعني أيضاً تحمّل المخاطر المعاكسة، فالتحول الفاشل لن يكون نموذجاً، بل يكون تحذيراً.

• بريطانيا تحتاج حالياً إلى شراء كميات كبيرة من طاقة الرياح البحرية وبسرعة، لتحقيق أهدافها في مجال الطاقة النظيفة.

شاركها.
Exit mobile version