غزة – في وقت زعمت فيه الحكومة الإسرائيلية تقديم تسهيلات لوصول المساعدات الغذائية إلى قطاع غزة، تظهر أعداد الشاحنات الواردة عبر المعابر اعتماد الاحتلال سياسة التقطير التي تقوم على التحكم في مرور كميات محدودة لا تلبي سوى 14% من الاحتياج اليومي لأكثر من مليوني فلسطيني، بعد منع كامل لجميع أصناف الغذاء على مدى 5 أشهر.
وبلغ إجمالي عدد الشاحنات المحملة بالمساعدات التي دخلت قطاع غزة خلال الأسبوعين الماضيين 1210 شاحنات، في الوقت الذي يقدر فيه الاحتياج الفعلي في الفترة المذكورة 8400 شاحنة.
وتكشف مقارنة كميات الغذاء التي وصلت إلى غزة مؤخرا بتلك التي كانت تصل إليها قبل الحرب، عن الحاجة الملحة لتدفق البضائع دون قيود وبما لا يقل عن 600 شاحنة يوميا لمدة تزيد عن 3 أشهر، كي يبتعد قطاع غزة المحاصر عن شبح المجاعة التي تسيطر على سكانه.
كما منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 90 ألف شاحنة من الدخول إلى قطاع غزة منذ مطلع مارس/آذار الماضي بعدما أغلقت المعابر بشكل محكم في إطار خطة ممنهجة لتجويع السكان.
تجويع ممنهج
قال مصدر خاص في وزارة الاقتصاد الوطني بغزة للجزيرة نت إن ما معدله 122 ألف شاحنة كانت تصل إلى قطاع غزة سنويا قبل بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، موزعة ما بين تلك المخصصة للمساعدات التي تقدمها المؤسسات الدولية وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أو التجارية الخاصة.
وأوضح المصدر الحكومي أن 30 ألف شاحنة كانت ترد سنويا من خلال جمهورية مصر عبر طريق صلاح الدين التجاري، بما يقدر 28% من مجمل الواردات، والبقية كانت تصل من الجانب الإسرائيلي.
كما أشار إلى أن 60% من مجمل الشاحنات التي كانت تصل قطاع غزة قبل الحرب كانت مخصصة للمواد الغذائية، ونصفها تمثل مساعدات توزعها الأونروا والمؤسسات الدولية، مقدّرا حاجة قطاع غزة من الطحين بـ15 ألف طن شهريا، من بينها 8 آلاف طن كانت تصل لصالح وكالة الأونروا.
وبحسب المصدر في وزارة الاقتصاد، فإن الاحتياج الشهري لسكان قطاع غزة من السلع الأساسية يقدر بـ3700 طن من السكر و3300 طن أرز و2100 طن من الزيوت و330 طنا من العدس، الذي ارتفع معدل استهلاكه خلال المجاعة الحالية إلى 2000 طن شهريا بسبب اعتماد معظم السكان عليه.
وأشار المصدر إلى أنه في إطار تعميق أزمة المجاعة في قطاع غزة، عمدت إسرائيل إلى:
- التضييق على عمل المؤسسات الدولية النشطة في الأراضي الفلسطينية، وقررت منع الأونروا من العمل داخل أراضيها منذ نهاية يناير/كانون الثاني الماضي.
- تعليق العمل بالبروتوكول الإنساني المتفق عليه يوم 18 يناير/كانون الثاني الماضي الذي تزامن مع بدء دخول المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
- تشديد الحصار وإغلاق المعابر بشكل كامل منذ مطلع مارس/آذار الماضي.
- منع تأمين مرور المساعدات إلى مخازن المؤسسات الدولية وتوزيعها بشكل عادل على جميع سكان قطاع غزة.
- اللجوء إلى افتتاح مراكز المساعدات الأميركية التي تقدم الفتات من المواد الغذائية بدون آلية واضحة، مما يدفع السكان إلى الموت.
ويعتقد المصدر الحكومي أن غزة تتعافى بشكل أسرع في حال السماح للقطاع التجاري الخاص بإدخال الاحتياجات من المواد الغذائية والسلع دون قيود، مما سيسهل وصول البضائع للمواطنين ويخفض من سعرها المرتفع.
ووصف المصدر الحالة الاقتصادية في قطاع غزة بـ”الصعبة جدا” نظرا لطول أمد الحرب، ومنع دخول المواد الغذائية، وغياب مصادر الدخل عن معظم الفئات العاملة، وعدم توفر السيولة النقدية، ووصول الناس لحالة من سوء التغذية.
ولفت إلى أن غزة تحتاج إلى تدفق البضائع يوميا دون قيود لمدة 3 أشهر كي تستعيد عافيتها بالقطاع الغذائي فقط، ويتمكن أي مواطن من شراء السلع بتكلفتها المعروفة سابقا وتصبح في متناول الجميع.
استمرار التضييق الإسرائيلي
وفي هذا السياق، يعتقد الباحث في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر أن المشكلة الحقيقية في نقص الغذاء بقطاع غزة تتمثل في سياسة “تقطير السلع” التي تنتهجها إسرائيل منذ بداية الحرب، حيث لا تتجاوز الكميات التي تسمح إسرائيل بإدخالها 15% من حاجة الغزيين في أحسن الأحوال، وفي شهور سابقة كانت تسمح فقط بإدخال 2% أو 3% فقط من حاجة السكان.
وقال الباحث، في حديث للجزيرة نت، إن التضييق الإسرائيلي على مرور السلع خلق حالة من التشوه الاقتصادي بالأسواق وجعل الأسعار غير منطقية، ويفسر ذلك الارتفاعات الماراثونية للأسعار وعدم عمل السوق بالديناميكية الطبيعية.
وأضاف “حتى في فترة التهدئة في نهاية يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضيين، انتهجت إسرائيل سياسة الإغراق بسلع معينة -كالطحين مثلا- وحرمت القطاع من أصناف أخرى، وبالتالي نحن لا ننظر للأسواق من ناحية الكم فقط، بل إن القطاع بحاجة للتنوع الذي يحرّك الأسواق”.
وأوضح الباحث في الشأن الاقتصادي أن “سياسة الإغراق” لا تقل خطورة عن “سياسة التقطير”، وكلتاهما تضران بالاقتصاد والأسعار، مشيرا إلى أن إدخال الشاحنات التجارية مهم للأسواق ويحقق التنوع ويحل مشكلة السيولة بشكل جزئي.
وأشار إلى أن “إسرائيل تتعمد إبقاء حالة المجاعة قائمة والأسعار مرتفعة لأنها تصر على إدخال الشاحنات بكميات معينة عبر بضعة تجار فقط، وتمنع الاستيراد إلا بكميات محدودة”.
ولفت المتحدث ذاته إلى أنه رغم أهمية الشاحنات التجارية، لا يمكن تجاهل أن 95% من سكان قطاع غزة باتوا يعتمدون على المساعدات، مما يُبقي حالة المجاعة قائمة طالما رفضت إسرائيل تأمين دخولها والعمل وفق البروتوكول الإغاثي والإنساني المتفق عليه في يناير/كانون الثاني الماضي.
ولا تزال الأسعار مرتفعة بشكل كبير مقارنة بمعدلاتها الطبيعية، وتفسره الكميات القليلة التي تدخل بالنظر لحاجة السكان وتعطش الأسواق لكميات كبيرة.
وذكر الباحث الاقتصادي أن إسرائيل تمنع التنوع في الأسواق وتكتفي بإدخال بعض المواد الغذائية، في وقت يحتاج فيه السوق لعدة سلع إستراتيجية لا تقل أهمية عن الغذاء، مثل الوقود الذي يعتبر المحرك الأساسي للتضخم وارتفاع الأسعار، وأدى منع إدخاله منذ شهور لارتفاعات قياسية في أسعاره التي تجاوزت 1600% مقارنة بسعره قبل الحرب.
وكذلك يحتاج قطاع غزة إلى أدوات الطاقة البديلة بعد عامين من انقطاع كامل للتيار الكهربائي، إلى جانب تأمين أساسيات المأوى من بيوت متنقلة وخيام، الأمر الذي ترفض إسرائيل إدخاله.