في صباح الثامن من أبريل/نيسان 1925، كان على السياسي البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور أن يصل باكراً إلى محطة حيفا، ليلتحق بالقطار المسافر إلى سوريا، بعد أن أمضى عدة أيام صاخبة في فلسطين حيث أقام له اليهود حفلات لطالما تلقى فيها عبارة إطراء جرى اقتطاعها من مزامير العهد القديم “مبارك أيها القادم باسم الرب”.
وكانت دمشق المحطة الثالثة في جولة استمرت قرابة أسبوعين، بدأها بلفور بمصر حيث التقى الجنرال إدموند ألنبي ومسؤولين آخرين، ثم تابع سفره إلى القدس ليشارك في حفل افتتاح الجامعة العبرية المستحدثة والذي دعي لحضوره، ويثني في كلمة ألقاها على الجهود التي تبذلها الحركة الصهيونية لإنشاء وطن قومي لليهود.
وقبل انطلاق القطار بساعات قليلة، بدأت أسلاك البرق تنقل عن وسائل إعلام سورية عزم الدمشقيين التجمهر أمام محطة قطار الحجاز، وسط العاصمة حيث من المقرر وصوله احتجاجاً على زيارة سياسي غير مرغوب فيه، عُرف عنه تعلقه الشديد بتعاليم التوراة، وارتباطه الوثيق بحاييم وايزمان أحد زعماء الحركة الصهيونية، علاوة على منحه اليهود (حين كان وزيراً للخارجية 1916 – 1919) حقاً لا يملكونه في الجزء الجنوبي من سوريا الطبيعية، اشتهر تاريخياً بوعد بلفور.
ومن المؤكد أن سياسياً مثل بلفور سيظل في نظر السوريين نموذجاً للعقلية الاستعمارية التي سادت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وترجمها مؤتمر سان ريمو عام 1920 بمنح لندن وباريس إدارة 3 بلدان عربية (سوريا، فلسطين، العراق) تحت بند الانتداب بزعم حاجة سكانها إلى إعادة تأهيل سياسي وإداري، بعد أن استقلت حديثاً عن الحكم العثماني.
ومن وجهة نظر ميشيل بروفانس أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة سان دييغو، كان مهندسو الانتداب ينوون بصراحة تدمير الدولة العثمانية، واستبدالها بما اعتبروه أكثر سهولة في الإدارة، وأكثر راحة أيديولوجية من منظور إمبريالي فرنسي بريطاني.
ولا تزال آثار الانتدابات وهياكلها حاضرة -وفق رأيه- في كل مكان، وقد تتبع أثرها، وشعر بالفزع من الطريقة التي صمم بها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأولى ليسمح بأسوأ أنواع الفظائع والتستر عليها.
ونوه في كتابه “تكوين الشرق الأوسط الحديث” إلى أن مساعي القوى المنتصرة -لاستعمار أراضي المهزومين- تطلبت في جزء منها تصنيفاً ضمنياً للمسلمين العثمانيين، كفئات غير أوروبية ناقصة عرقياً، مما استوجب الوصاية الاستعمارية عليها، مشيراً إلى أن السلبيات التي أنتجها النظام الاستعماري ونظام الانتداب الصادر عن عصبة الأمم لا تزال تتكشف بالمنطقة بعد مرور 100 عام.
غضب شعبي وتدابير أمنية
فور الإعلان عن زيارة بلفور بشكل رسمي، تصاعدت ردود فعل السوريين على نحو لافت. ونقلت صحف محلية عاصرت الزيارة تلقي المفوض السامي الفرنسي الجنرال موريس ساراي (حاكم سوريا المنتدب 1924- 1925) برقية من المجلس التمثيلي السوري -الذي يضم ممثلين عن مختلف المناطق السورية- طلب مرسلوها رفع احتجاجهم على الوعد المشؤوم وصاحبه إلى عصبة الأمم في جنيف، على أمل أن تكون مواقفها عادلة، ولإنصاف الشعوب الضعيفة التي ليس لها سلاح تتمسك به للدفاع عن حقوقها غير الحق والعدل.
كما وزعت منشورات تدعو السوريين إلى إظهار تعاطفهم مع إخوانهم الفلسطينيين، والوقوف إلى جانبهم في وجه ما تتعرض له بلادهم من تحديات تستهدف عروبتها وتراثها بشقيه الإسلامي والمسيحي.
ونقلت تقارير ميدانية عن الدمشقيين رغبتهم العارمة للحيلولة دون إتمام الزيارة، والتصدي لها، خاصة بعد أن عقد الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر لقاءات شعبية ضخ فيها الحماسة بنفوس العامة والمثقفين، وحثهم على الخروج إلى الشوارع والاحتجاج، واعداً إياهم ألا يبيت بلفور ليلة واحدة داخل البلاد.
وهذا ما دفع الجنرال ساراي إلى أن يطلب من الحكومة اتخاذ تدابير أمنية في العاصمة، وإرسال شرطة سرية برفقة ضباط وإداريين إلى محطة الحمة على الحدود الفلسطينية السورية، لمرافقة الضيف غير المرغوب فيه، والحفاظ على أمنه.
تغيير برنامج الزيارة
كان من المقرر -وفق الخطة التي أعدها المفوض السامي البريطاني في فلسطين هربرت صموئيل مع نظيره الفرنسي الجنرال ساراي في سوريا- أن يتوقف القطار الذي يقل بلفور والوفد المرافق في محطة قطار الحجاز (وسط العاصمة) واستقبال الضيف وفق ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية.
ولكن صدمة غير محسوبة فاجأت بلفور، عندما عبر القطار الحدود السورية، حيث تلقاه أهالي القرى التي مر عليها بلافتات احتجاج وشارات سوداء وهتافات تؤكد عروبة فلسطين. ثم سرعان ما تطور المشهد إلى رمي الحجارة على العربة التي يجلس فيها مما أدى إلى تحطيم نوافذها.
وقد أقلق التصدي الشعبي الذي تعرض له الموكب السلطاتِ البريطانية في فلسطين، فأجرت -حسب وثائق صحفية غطت تلك الفترة- اتصالات عاجلة مع سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا لاحتواء الموقف، ووضع خطة مشتركة لحماية الضيف أثناء وصوله دمشق، لا سيما أن معلومات وصلت إلى حكومة الانتداب في القدس -أعلن عنها فيما بعد- أفادت بأن خطة جرى إعدادها لاغتيال بلفور أثناء زيارته للعاصمة السورية.
ويذكر الباحث عبد الهادي البكار -في كتابه “صفحات مجهولة من تاريخ سوريا الحديث”- أن استشعار السلطات الفرنسية لحالة الغليان التي كانت تسري في شوارع دمشق، والمعلومات الاستخبارية التي وصلتها بهذا الخصوص، دفعتها إلى تعديل خطة وصول بلفور حفاظاً على حياته، فقررت إنزاله في محطة القدم بإحدى ضواحي دمشق الجنوبية، بدلاً من محطة الحجاز وسط المدينة. وأعدت سيارة خاصة بمساعدة القنصل البريطاني لتنقله سراً لفندق فيكتوريا مقر إقامته.
وتقول وثيقة قنصلية محفوظة بأرشيف الخارجية البريطانية إن الجمهور الغاضب بقي يحاصر محطة الحجاز، وكان أغلبه من طلبة الحقوق والطب، بعد أن أوهمه وجود أفراد الشرطة ومفتشيها -إلى جانب معاون مندوب المفوض السامي وبعض موظفي القنصلية البريطانية- أن بلفور لا يزال في طريقه نحو المحطة.
أما “ألف باء” (أبرز الصحف السورية آنذاك) فقد رصدت لحظة وصول القطار ودوي صفيره إلى محطة الحجاز قائلة “سرعان ما اشرأبت الجماهير بأعناقها، ومنع رجال الشرطة الناس من دخول الصالة، ولما نزل الركاب سرى خبر نزول اللورد في محطة القدم ووصوله إلى فندق فكتوريا، فانكفأت الجماهير نحو الفندق سائرة تنادي بسقوط وعد بلفور، وتهتف لفلسطين وعروبتها.
حصار الفندق
على الضفة اليمنى لنهر بردى (وسط دمشق) يقع فندق فيكتوريا الشهير الذي اختير مقراً لإقامة اللورد بلفور مثل غيره من الشخصيات المهمة. وحمل الفندق اسم ملكة بريطانيا ألكساندرينا فيكتوريا بعد أن قررت زيارة دمشق، حيث أطلقت السلطات المحلية اسمها على عدد من الأماكن البارزة بالعاصمة تكريماً لها.
ومع أن الزيارة الملكية أرجئت بسب مرض الملكة ثم وفاتها، فإن الفندق بقي يحمل اسمها حتى عام 1955 الذي تم فيه هدمه وتشييد مبنى آخر مكانه.
وتصف الموسوعة الدمشقية فندق فيكتوريا الذي بني في الفترة ما بين عامي 1879- 1890 كأحد أهم أبنية دمشق التاريخية والتراثية، فقد تميز بطراز أوروبي ومزيج من العمارة الشرقية. وكان يتألف من 3 طوابق، مع سقف هرمي قرميدي، وتم تجهيزه بأحدث المعدات المتوفرة في ذلك الوقت.
وقد استقبل الفندق خلال فترات مختلفة -إضافة إلى بلفور- شخصيات بارزة، بعضهم كان يقيم فيه أو يعقد اجتماعات في أجنحته. من بينهم جمال باشا قائد الجيش العثماني الرابع الذي اتخذ منه مقراً زمن الحرب العالمية الأولى، وخليفته جمال باشا (الصغير). كما أقام فيه الجنرال ألنبي قائد الجيش البريطاني بالشرق الأوسط.
ومن المفارقات اللافتة أن الراحة التي كان يستمتع الزوار بها أثناء إقامتهم فيه، لوجوده ضمن منطقة هادئة تحيط بها البساتين والمساحات الخضراء على امتداد النظر، لم يشعر بلفور بها فقد بقي سجيناً داخل غرفته، قلقاً يتابع من وراء ستائر نوافذها المغلقة غضب السوريين ومظاهراتهم خارج الأسوار. وكثيراً ما كان يصل مسامعه هتافهم بسقوطه وسقوط وعده.
واستندت جريدة فلسطين الفلسطينية في تغطيتها لحصار الفندق على تقرير لوكالة رويترز من دمشق، يشرح ما يجري بالقول “وقع شغب خطير، عندما استطاع المحتجون اختراق النطاق الذي ضربه البوليس، وهم يحاولون الوصول إلى فندق فيكتوريا حيث نزل اللورد بلفور، وكادوا يصلون، لكن البوليس والجندرمة ردوهم إلى الوراء غير مرة، وآخرها بإطلاق النار في الهواء، وجيء بالفرسان الأفريقيين و8 مصفحات مدرعة لإعادة النظام إلى نصابه”.
تهريب بلفور بغطاء فرنسي
تابعت لندن الموقف باهتمام بالغ. فقد كانت برقيات صحفية تصف الاحتجاجات على أنها أعمال شغب مقلقة للغاية. ودفع تطور الأحداث جريدة ديلي نيوز لتبرق إلى اللورد بلفور لتطمئن على سلامته، وتبلغه -بحسب صحيفة الشورى القاهرية- تضامن إنجلترا بأسرها التي باتت ليلة كاملة قلقة عليه.
وخلال مواجهات اليوم التالي، استخدمت القوات الفرنسية فرق الخيالة والمدرعات لتفريق آلاف المتظاهرين في الشوارع والساحات. فسقط عشرات الجرحى، استشهد اثنان منهم. وبدا من الواضح -أمام إصرار الجموع على طرد بلفور من الفندق- أن الأمور قد تتجه لما هو أسوأ من ذلك.
ومع تفاقم الأوضاع، كان على الجنرال الفرنسي ساراي والقنصل البريطاني في دمشق وضع خطة لتهريب بلفور من الفندق بعيداً عن أعين المتظاهرين، قد كشفت صحيفة ألف باء تفاصيلها.
وبحسب الصحيفة، فقد “أمرت الحكومة قبل 3 ساعات من سفره، ألا تدخل دمشق أو تخرج منها سيارة حتى تكون الطريق خالية تماماً”.
وتابعت “الساعة الثالثة بعد الظهر زار المندوب السامي الفرنسي الجنرال ساراي اللورد بلفور في الفندق ولم يمكث معه إلا بضع دقائق، وبعد ساعة عاد الجنرال ساراي ووقف بسيارته على الجسر المقابل للفندق، فتحولت الأنظار إليه، وتزامن وقوفه مع تحليق طائرات حربية فرنسية فوق المكان، انشغل بهديرها الحضور، وبذلك سنحت الفرصة ليغادر بلفور الفندق خلسة من الأبواب الخلفية، من غير أن يشعر به أحد، واستقل برفقة الضابط البريطاني لاسل سيارة أقلتهما إلى بيروت، تحت حراسة 12 شرطياً سرياً و45 جندياً”.
وفي لحظة فارقة، غادر بلفور سوريا يحمل لدمشق صورة لم يخبره بها رجاله، ونفى لمراسل صحيفة نيويورك تايمز وجود أي فكرة لديه عن مشاكل محتملة قد يواجهها أثناء وجوده في سوريا، مضيفاً “لو تم تحذيري مسبقاً لكنت ألغيت الزيارة”.
غير أن تساؤلاً ملحاً كان عليه أن يطرحه قبل أن يرحل “لو قام الناس في فلسطين بمثل هذا لم استغرب، أما أن يقوم بهذه المظاهرات أهل سوريا، فهذا عجيب. أي صلة بين سوريا وفلسطين؟”.
وأمسك كريستوفر سايكس في كتابه “مفترق طرق إلى إسرائيل” رأس الخيط، وتابع معلقاً “إن بلفور الذي أبدى انزعاجه مما حصل، لم يفهم لماذا يجب أن تكون سوريا مهتمة للغاية بإعلانه التاريخي، ومن الواضح أنه لم يدرك أن الأرض التي تمتد من سفح جبل طوروس إلى حافة صحراء سيناء هي دولة واحدة جسدياً وعرقياً وعاطفياً واقتصادياً، على الرغم من أنها قسمت بسبب مقتضيات السياسة العالمية”.