في إسرائيل يكاد الجنون يصيب أشدهم تعقلا. فإستراتيجية الأمن القومي التي تمددت من إزالة الخطر في المحيط المباشر، وامتلاك إنذار يتيح للجيش الاستعداد لضربة وقائية تمنع انتقال الخطر إلى داخل إسرائيل، تبدلت بنظرية السيطرة من مراكش إلى بنغلاديش. ولكن التحدي لهذه النظرية يأتي من الأقرب والأشد ضعفا: قطاع غزة، ومن بعيد طالما نُظر إليه على أنه الأضعف والأبعد بين الأعداء العرب: اليمن.
وإذا كانت غزة قد جعلت إسرائيل تواجه “الكارثة” التي لا توازيها في نظرها سوى المحرقة النازية، وأدامت أطول حروب إسرائيل، فإن اليمن وضع إسرائيل أمام اضطرار خطير: قيام أميركا مباشرة بالدفاع عنها. وجاء الصاروخ اليمني الأخير ليكشف بعضا من أخطر نقاط ضعف إسرائيل، و”يحاصرها” جوا بعد النجاح في محاصرتها في البحر الأحمر.
وهكذا ولأول مرة يسقط الصاروخ في قدس أقداس الأمن الإسرائيلي داخل مطار اللد المسمى مطار بن غوريون، وهو المنفذ الجوي شبه الوحيد للدولة العبرية. واضطر الجيش الإسرائيلي للاعتراف بفشل محاولات اعتراض الصاروخ، وأنه سقط في المطار قبل انتهاء سماع صفارات الإنذار.
وولّد سقوط الصاروخ في هذه المنطقة الحيوية ما يشبه الشلل في ما يعرف بـ”غوش دان”، أو تل أبيب الكبرى، جراء إغلاق شوارع رئيسية وزحمة المرور وتوقف حركة قطارات والمواصلات العامة وفرار الجمهور. بالإضافة إلى ذلك، اضطر ملايين الإسرائيليين للهرع إلى الملاجئ في مستهل أول يوم من أيام الاسبوع.
وحسب وصف موقع “يديعوت أحرونوت”: سمعت انفجارات وسط البلاد بعد انطلاق صفارات الإنذار، كما شوهدت أعمدة الدخان تتصاعد في حرم مطار بن غوريون. وعقب ذلك، تم التحقيق في احتمال وقوع حادث تحطم، وبدأت عمليات المسح على مدارج المطار، الذي تم إغلاقه لفترة وجيزة أمام عمليات الإقلاع والهبوط. واستؤنفت حركة المرور في مطار بن غوريون بعد ذلك، لكنها توقفت مرة أخرى ثم استؤنفت مرة جديدة. وقع الحادث في المطار بالقرب من المبنى رقم 3.
قال رئيس لجنة عمال هيئة المطارات بنحاس عيدان لموقع “واي نت”: دخلنا جميعًا المناطق المحمية، ولم تهتزّ إلا طائرة. سمعنا دويا هائلًا، دويا سريعًا. كان قريبا من الطائرات المتوقفة هناك، وكان حظًا سعيدا، إذ لم تكن هناك سوى طائرة واحدة في الجو.
وقال يوسي، سائق سيارة أجرة كان بجوار البوابة 23 في مطار بن غوريون، “دوت صفارت الإنذار، وفجأةً وقع انفجار هائل. لم يكن هناك وقتٌ للركض بحثًا عن مكان آمن داخل مبنى الركاب رقم 3. كان من الواضح أن هذا هو المكان المناسب. اهتزّ كل شيء، وتطايرت الحجارة الصغيرة في الهواء. ساد الذعر المكان”.
إلغاء الرحلات
ما إن سقط الصاروخ في حرم مطار اللد حتى عادت طائرات من الجو إلى بلادها وامتنعت طائرات أخرى عن الإقلاع نحو هذا المطار. وسرعان ما أعلنت شركات طيران دولية عن حاجتها إلى معلومات حول ما جرى، وقررت تعليق رحلاتها إلى إسرائيل.
ومن بين شركات الطيران، أعلنت مجموعة لوفتهانزا، والخطوط الجوية السويسرية، والخطوط الجوية النمساوية، وإير أوروبا، وإير إنديا، وإير كندا، وبروكسل إيرلاينز، وتيوس إيروايز، إلغاء رحلاتها من وإلى إسرائيل في الساعات المقبلة، وتنتظر تحديثات بشأن الوضع.
كما أعلنت الخطوط الجوية البريطانية، التي كان من المقرر أن تشغل رحلتين من لندن إلى إسرائيل خلال الـ24 ساعة القادمة، إحداهما كان من المقرر أن تغادر بالفعل، عن تأجيل رحلاتها. وينتظر الركاب تحديثات من شركة الطيران.
وأعلنت شركة الطيران الإيطالية “آي تي إيه” (ITA) أيضًا عن خطوة مماثلة. وألغت شركة الخطوط الجوية الفرنسية (إير فرانس) إحدى رحلاتها، كما هبطت طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية (ترانسافيا) في اليونان، ولم تستكمل رحلتها إلى تل أبيب.
وكانت ثلاث شركات طيران كبرى قررت وقف رحلاتها إلى إسرائيل الأسبوع الماضي. الخطوط الجوية البريطانية “فيرجن أتلانتيك”، والشركتان التركيتان الخطوط الجوية التركية وبيغاسوس. وتنتظر إسرائيل بفارغ الصبر عودة شركات كبرى أخرى مثل الخطوط الجوية الأميركية، التي ألغت رحلاتها إلى إسرائيل حتى سبتمبر/أيلول 2025.
وكانت شركات طيران كندا، وإيزي جيت، والخطوط الجوية الهولندية “كيه إل إم” (KLM) أعلنت أنها ستعود إلى الطيران إلى إسرائيل في يونيو/حزيران المقبل. وليس واضحا بعد مدى تأثير سقوط الصاروخ في مطار اللد على القرار.
بحسب جدول رحلات مطار بن غوريون، ألغت الخطوط الجوية النمساوية جميع رحلاتها إلى إسرائيل حتى يوم غد، كما ألغت الخطوط الجوية السويسرية وبروكسل رحلة واحدة لكل منهما، وألغت شركة لوفتهانزا خمس رحلات.
ورغم ذلك، لم تصدر مجموعة لوفتهانزا -التي تضم لوفتهانزا والخطوط الجوية السويسرية وبروكسل إيرلاينز ويورو وينجز والخطوط الجوية النمساوية- حتى الآن بيانا رسميا بشأن التغييرات في عملياتها في أعقاب الهجوم الصاروخي على مطار بن غوريون.
وما يثير القلق بشكل خاص أن الصواريخ استهدفت مطار اللد تحديدا ضمن ما أعلنه الحوثيون كونه “حصارا جويا” على المطار. ومن المؤكد تقريبا أن هذا التهديد المعلن، الذي يصاحبه الآن سقوط شظايا حقيقية في منطقة المطار، سيؤدي إلى زيادة أقساط التأمين على شركات الطيران التي تسافر إلى إسرائيل.
وبالنسبة لصناعة السياحة الإسرائيلية، التي تكافح من أجل التعافي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فهذه ضربة أخرى. وسوف يؤدي إلغاء الرحلات الجوية إلى صعوبة سفر الإسرائيليين إلى الخارج، وصعوبة عودة السياح القلائل لقضاء إجازاتهم في البلاد، مما سيضر بالسياحة الداخلية والخارجية على حد سواء.
فشل منظومات الدفاع
وكان السؤال الأول الذي خطر ببال الإسرائيليين -خصوصا أن هذا الصاروخ أحدث انفجارا ضخما وحفر حفرة بـ25 مترا- هو: أين منظومات الدفاع الجوي؟ ومعروف أن إسرائيل تفخر بأنها الدولة الأولى في العالم في تطوير منظومات الدفاع الجوي ضد الصواريخ. وقد طورت بتمويل ومساعدة أميركية منظومات حيتس 1 وحيتس 2 وحيتس 3 للتعامل مع الصواريخ البعيدة المدى في عدد من طبقات الجو.
كما طورت منظومة مقلاع داود للتعامل مع الصواريخ المتوسطة المدى. وأخيرا هناك منظومة القبة الحديدية التي طورتها للتعامل مع الصواريخ القصيرة المدى. كما أنها أنشأت نظاما يسمى الدفاع المتعدد الطبقات، وهو يعنى بالتشارك بين هذه المنظومات بالدفاع حتى في مواجهة صاروخ واحد وتشكيل جبهة حصينة ضده وضد الشظايا التي يمكن أن تنشأ عن انفجاره.
ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل إنها استخدمت في مواجهة الصواريخ على مدى السنين منظومات الدفاع الجوي الأميركية ضد الطائرات مثل منظومة باتريوت. وطلبت من أميركا تزويدها بأفضل منظوماتها الدفاعية ضد الصواريخ من طراز “ثاد” (THAAD) حيث نصبتها بإدارة أميركية في جنوب فلسطين.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن أميركا أنشأت نظاما دوليا للدفاع الصاروخي عن إسرائيل ارتكز على الأسطولين الأميركيين في البحرين المتوسط والأحمر، وكذلك سفن حلفاء فرنسيين وبريطانيين وألمان، بالإضافة إلى منظومات دول عربية.
وحاول الجيش الإسرائيلي تبرير ما جرى، فأعلن رسميا أنه “في أعقاب التنبيهات التي تم تفعيلها في عدة مناطق من البلاد، جرت عدة محاولات اعتراض لصاروخ أطلق من اليمن”. واعترف بأنه تم رصد سقوط الصاروخ في حرم مطار بن غوريون، وأنه يجري التحقيق في الحادث.
ومن بيان الجيش الإسرائيلي لم يفهم أحد ما إذا كان هذا جزءًا من الصاروخ أم الصاروخ بأكمله. كما أقر الجيش الإسرائيلي بشكل قاطع بفشل محاولات الاعتراض باستخدام نظامي “حيتس 3″ الإسرائيلي و”ثاد” الأميركي. ونتيجة لذلك بدأ تحقيق معمق في سلاح الجو الإسرائيلي.
عموما كانت الدهشة عارمة عندما فشلت منظومات الدفاع الجوي في اعتراض الصاروخ اليمني، وهي دهشة في الغالب لن تقتصر على الإسرائيليين. وعن عواقب ذلك، تساءل نوعام أمير المراسل العسكري لموقع “ماكور ريشون” تعليقا على فشل منظومات الدفاع الجوي “هل من الممكن أن يرى الألمان هذا الإخفاق ويعيدوا التفكير في شراء منظومة حيتس؟”.
هل الفشل أميركي؟
وفور الإعلان عن فشل التصدي للصاروخ اليمني، قال وزير الدفاع إسرائيل كاتس “من يضربنا سنرد عليه سبعة أضعاف”. وتقرر إلغاء اجتماع أمني كان مقررا مساء اليوم الأحد وعقد مداولات هاتفية في الظهيرة لتحديد الرد الإسرائيلي في ضوء مطالبة عدد من الوزراء بتغيير السياسة الحالية وشن هجوم على اليمن.
ومعروف أن أميركا أراحت إسرائيل من الرد على الصواريخ اليمنية، معتبرة أن هذه الصواريخ تشكّل خطرا دوليا على حرية الملاحة وليست شأنا إسرائيليا خاصا. وأقرت إسرائيل قبل أربعة أشهر بأن من مصلحتها وقف الهجمات على الأراضي اليمنية وترك مهمة الرد للأميركيين.
وطبعا لم يقصر الأميركيون في الرد، إذ هاجموا بعنف موانئ ومطارات وأهدافا مدنية وعسكرية على نطاق واسع، مما أشعر الإسرائيليين بأنه لا يمكنهم فعل أكثر من ذلك. لكن النتيجة لم تتغير. بقي الحصار البحري على ميناء إيلات مفروضا، وصارت أميركا تتكبد خسائر إضافة إلى تكاليف العمليات. وأقرت أميركا مؤخرا بسقوط ما لا يقل عن 7 طائرات تجسس هامة، وسقوط طائرة إف-18 في البحر أثناء محاولتها الإفلات من نيران صواريخ يمنية على حاملة الطائرات الأميركية.
غير أن عودة إسرائيل للحديث عن وجوب الرد يعني بشكل ما الاقتناع بأن الجهد الأميركي في اليمن، على شدته، غير كاف. وطالب قادة عسكريون سابقون باللجوء إلى أساليب أمنية بينها اغتيال قيادات يمنية على شاكلة ما جرى ويجري في لبنان. غير أن آخرين يقولون إن اليمن ليس لبنان لا في طبيعته ولا في قربه، لذلك فالمقارنة بينه وحزب الله غير مناسبة. كما أن من المعروف أن تكرار الأمر نفسه لا يوفر ضمانة للنجاح لاختلاف المستهدفين.
وحسب معاريف، تقدر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن سلسلة عمليات إطلاق الصواريخ وطائرات من دون طيار من اليمن إلى إسرائيل في الأيام الأخيرة هي نتاج الضغوط الشديدة التي يمارسها الجيش الأميركي على الحوثيين. ويُقدر أيضًا أن بعض الهجمات كانت موجهة نحو خليج حيفا بهدف إحداث دمار كبير وتداعيات واسعة النطاق.
وأضافت المصادر الإسرائيلية أنه ليس من المنطقي عمليا في الوقت الراهن تنفيذ هجمات إسرائيلية في اليمن. “لتنفيذ هجوم، عليك أن تطير مسافة ألفي كيلومتر، وماذا ستهاجم هناك؟”، ويقول مصدر أمني “كل هجوم تقومون به أقل فعالية بمئة مرة من الأميركيين الذين يهاجمون عشرات الأهداف هناك كل يوم”.
لكن ذلك لن يمنع الإسرائيليين من إلقاء اللوم على الأميركيين، والتهديد بأنهم سيردون بشكل عنيف، خصوصا أن هذه حكومة يمينية تشعر بأنها في كل حال هي المستهدفة.