واشنطن- قبل أن يصبح دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة تمتع كرجل أعمال بشهرة عالمية نتيجة لعلامته التجارية القيّمة، وعقاراته وتنظيمه فعاليات هامة كمسابقات اختيار ملكات جمال العالم، ومباريات الملاكمة الشهيرة.
وفي كتابه “فن الصفقة” الصادر عام 1987، سلط ترامب الضوء على نهجه الشخصي الخاص الذي يعتمد عليه في المفاوضات والتفاعلات التجارية والصفقات، ونصح فيه القراء بالتفكير بشكل معمق، وتعظيم الخيارات والبدائل المتاحة، واستخدام النفوذ المتاح، والمقاومة وعدم الانسحاب السريع، والاستمتاع بتحقيق المكاسب.
لكن سجل ترامب، خاصة في أول 100 يوم من بداية ولايته الثانية، يُظهر عدم التزامه شخصيا بما نصح به الآخرين. وعلى الرغم من أن ما ينجح في عالم العقارات في نيويورك قد يفشل في عالم السياسة شديدة التعقيد، فإنه لم يغير طريقته التي تتضمن عناصر كثيرة مختلفة متضادة واستثنائية.
سلوك متناقض
يتميز تفاوض ترامب بمطالبه “المتطرفة”، وهجماته الشخصية، وصوته العالي، ورفضه تقديم التنازلات، ومطالبته بأشياء متناقضة، وتغيير سريع في الرأي والمواقف، والإيمان بصفرية معادلة التفاوض، والسلوك العدواني، والتهور والاندفاع، والتناقض مع نفسه أحيانا والتصادم مع الآخرين، والظهور بمظهر المرتبك كوسيلة للضغط.
وقع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون اتفاقية تجارة حرة مع كندا والمكسيك، قبل نهاية عام 1992، فيما بات يعرف اختصارا باتفاقية “نافتا”، والتي أسست لأكبر منطقة تجارة حرة في العالم.
وبعد وصوله للحكم في ولايته الأولى، كرر ترامب أن الاتفاقية هي “أسوأ صفقة تجارية تم إبرامها على الإطلاق”، وأنه يجب إما إصلاحها وإما التخلي عنها. وبعد شهور من التهديدات، اتفقت الدول الثلاث على إجراء مراجعة للاتفاقية، وتم التوقيع على تعديلها في يوليو/تموز 2020، على أن يتغير اسمها إلى (USMCA). واحتفى ترامب بنجاح أسلوبه التفاوضي والتوصل لصفقة جديدة “عادلة” للأميركيين.
وبعد أقل من شهرين على بداية ولايته الثانية، فرض ترامب رسوما جمركية بنسبة 25% على الواردات الكندية والمكسيكية، مما أدى إلى تعهد برد فعل مماثل من الدولتين، مما أسهم في تعثر أسواق المال والأسهم الأميركية إذ تُعدان أكبر شريكين تجاريين لواشنطن بحجم تجارة يتخطى 1.5 تريليون دولار سنويا.
كذلك خطط ترامب لفرض تعريفة جمركية أخرى بنسبة 25% على السيارات وقطع غيارها. وتصنع الولايات المتحدة سياراتها بالاعتماد على آلاف قطع الغيار والأجزاء من كندا والمكسيك.
ولم يطالب بتحسين شروط أفضل للشركات الأميركية في التجارة معهما، سواء في بنود اتفاقية نافتا الأصلية أو المعدلة، واختار التفاوض من جديد ومعاقبة الدولتين وفرض تعريفات إضافية. وتعامل مع الاتفاقيتين على أنهما منافسة تحتم خسارة الأطراف الأخرى، وتحقيق مكسب لبلاده، بدلا من كونها فرصة لتعظيم مكاسب الجميع.
مكاسب شخصية
يبدأ ترامب التفاوض ساعيا لتعظيم مكاسبه بالحصول على أكبر جزء من الكعكة. ويتجاهل حقيقة أن التفاوض يعتمد على نقطتين أساسيتين:
- الأولى: أن المفاوضات والمفاوضين لهم أولويات معقدة ومختلفة.
- الثانية: أن إبرام صفقات لا يحدث إلا في ظل بناء علاقات ثقة تسمح لكل طرف بأن يدرك مصالح ومكاسب ينبغي للآخر الحصول عليها، وإدخالها في حساباته.
لكن ترامب لا يزال يرى أن التعاون ضعف، وأن أي بادرة حسن نية هي تنازل، وكل مفاوضات هي منافسة عدائية على المكاسب قصيرة الأجل.
ويهدد نهجه مصالح بلاده المادية (تدفقات تجارية، ودولرة الاقتصاد العالمي، وتحقيق الرفاهية المادية للأميركيين)، كما يهدد مصالحها غير المادية (الثقة، والاستقرار، والنفوذ الإستراتيجي والقوة الناعمة) والتي تدعم مكانة أميركا العالمية.
وما قام به مع اتفاقية “نافتا”، يكرره في علاقة بلاده الأمنية بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، وحلفاء واشنطن الكبار في شرق آسيا وعلى رأسهم اليابان وكوريا الجنوبية.
بدأ نهج ترامب المتهور اعتمادا على صفقات جديدة يوقعها هو شخصيا، في تفكيك قواعد العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية التي أسست لها، ورعتها، بلاده منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وأضاف تغيير رأيه المتكرر حول قضايا عدة الكثير من الشكوك حول العالم في جدوى التحدث له. ولا يفضل المفاوضون بصفة عامة البيئات عالية المخاطر التي تتميز باللجوء إلى الضغط وعدم القدرة على التنبؤ وتعطيل الديناميكيات التقليدية.
يرى البعض أن ترامب يتبع منهج “الارتباك كوسيلة للضغط”، في حين يرى آخرون أنه عفوي لا يدرك خطورة ما يقوم به، ولا يملك أجندة ويسعى فقط للمجد الشخصي، لكن الأهم أنه لا يدرك حجم وتعقيدات القضايا التي يجب أن يبحثها ويتخذ قرارات حولها.
يدعي ترامب أن قادة دول العالم تسعى للتودد إليه بهدف التوصل لترتيبات جديدة تقترب مما يطالب به بدلا من تلك التي يراها ظالمة ومجحفة لمصالح واشنطن.
3 طرق
ومن خلال رصد الجزيرة نت لتفاصيل إدارة ترامب خلال الـ100 يوم الأولى من رئاسته الثانية، لا توجد إلا 3 طرق على حكام دول العالم الاختيار أو الجمع بينها في التفاوض مع ترامب. ولا يمكن لأي دولة عدم الاكتراث بالتعامل معه إلا إذا كانت على شاكلة كوريا الشمالية أو كوبا.
- الطريقة الأولى: المديح والثناء وتقديم الهدايا
لا يخفِ ترامب سعادته بالثناء والمبالغة في تعظيم تحركاته وأهمية قراراته، وسعادته بالهدايا التي تقدم له ولأفراد عائلته، ولا يخجل من تكرار محبته لهؤلاء المادحين والمانحين.
ويُرجع عدد من الخبراء نجاح زيارة كير ستارمر، رئيس الوزراء البريطاني، للبيت الأبيض إلى لغة المديح التي التزم بها، وإلى تقديم خطاب من الملك تشارلز الثالث يدعو فيه ترامب لزيارة لندن.
كما يكرر الرئيس الأرجنتيني، خافيير ميلي، مقولة إنه يحب ترامب، ويغرد كثيرا بصورته وهو يحتضنه. لكن هذه الطريقة قد لا تضمن تغيير ترامب لمواقفه، فقد استمرت التعريفات المفروضة على المنتجات الأرجنتينية والبريطانية.
- الطريقة الثانية: الثناء علنا والتشدد سرا
تتبع إيطاليا واليابان بنجاح إستراتيجية “خلف الأبواب المغلقة” أي أنهما تضغطان على ترامب فقط سرا، في حين تلتزمان الصمت في العلن تجاه ما يقوم به ويتخذه من قرارات.
وتمكنت طوكيو من إيقاف التهديدات التجارية من واشنطن، وفضلت التفاوض وجها لوجه مع ترامب كما جرى في زيارة رئيس الوزراء الياباني شيجيرو إيشيبا للبيت الأبيض في مارس/آذار الماضي.
كما ضغطت روما، وعبّرت رئيسة وزرائها، جورجا ميلوني، من داخل البيت الأبيض، عن الاحتياجات التي يمتلكها كل طرف بصورة إيجابية أسعدت ترامب أمام الكاميرات، في حين تشير تقارير إلى استخدامها لغة وطريقة مغايرة في الاجتماعات المغلقة معه.
#الصين تقول إنها لا تخشى فرض أمريكا مزيدا من الرسوم الجمركية، وتؤكد أنها لن تكتفي بالجلوس على مقاعد المتفرجين pic.twitter.com/UpDIEJLIE7
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 11, 2025
- الطريقة الثالثة: التصعيد والمواجهة
لا يخف ترامب أنه فقط يحترم الأقوياء والناجحين. وهنا تُعد الصين نموذجا جيدا، إذ اختارت المواجهة والرد بنفس قوة ما يقوم به ترامب مع التهديد بالتصعيد عند الضرورة.
ويراهن المسؤولون الصينيون على أن التصعيد على ما يقوم به ترامب سيرفع من حجم الضرر الذي يلحق بالسوق والمواطن الأميركيين، وأنه لن يكون قادرا على تحمل تكلفة فرضه 145% تعريفات جمركية على بكين التي ردت عليها بإيصال التعريفات من جانبها إلى 125% على المنتجات الأميركية.
ولا تُظهر الصين أية رغبة في العجلة لتوقيع اتفاقيات أو عقد صفقات جديدة مع ترامب، وهذا ما جعله وكبار مساعديه يظهرون وكأنهم يستجدون مكالمة أو زيارة من نظرائهم الصينيين.
وذكر ترامب للصحفيين، عدة مرات، أنه سيكون لطيفا للغاية في مفاوضاته مع بكين، وأن الرسوم الجمركية المفروضة عليها ستُخفض بدرجة كبيرة بعد التوصل لاتفاق.