“صراع لا يعنينا” بهذا الشكل ينظر الغرب للنزاع في كشمير، وتعززت هذه النظرة عقب الحرب الباردة وما تبعها مما سمي بـ”الحرب على الإرهاب”، وهو ما يفسر غياب أي تدخل غربي جاد لحل للصراع المزمن منذ استقلال الهند وباكستان عام 1947.
وقبيل نهاية العقد الأخير من القرن الماضي، هز العالم زلزالان من جنوب آسيا، تمثل الأول في التجارب النووية المتبادلة بين نيودلهي وإسلام آباد في مايو/أيار 1998، وتبعها زلزال ارتدادي على شكل معركة محدودة في منطقة كارغيل شمال كشمير، فأعادا تعريف الصراع على سقف العالم في جبال الهمالايا بأنه بؤرة توتر نووي.
لعل أبرز نتائج هجوم بهلغام في 22 أبريل/نيسان الماضي هو أنه حرّك المياه الراكدة في النزاع على ولاية جامو وكشمير، والذي دخل حالة من الجمود منذ إلغاء الهند الوضع الخاص للولاية، والذي كانت تنص عليه المادة الدستورية 73، وأُلغيت بتعديل دستوري اتُخذ في اجتماع عاجل للبرلمان في أغسطس/آب 2019، وقسم الولاية إلى 3 مناطق تُدار مركزيا من نيودلهي.
إشعال الفتيل
وبغض النظر عمن يتحمل مسؤولية الهجوم الذي أودى بحياة 26 شخصا، فإنه أتاح المجال للحكومة الهندية العودة لممارسة ضغط عسكري سياسي واقتصادي ضد باكستان، وذلك بإغلاق الحدود والأجواء ووقف جميع المعاملات التجارية والتصعيد العسكري.
في المقابل، منح الهجوم باكستان فرصة ثمينة للخروج من الوضع القائم الجديد الذي فرضته الهند من طرف واحد بتعديلاتها الدستورية، وتغيير خارطة كشمير، وهدفت إلى إخراجها من دائرة “منطقة متنازع عليها” بموجب القانون الدولي، وكل الاتفاقيات المبرمة بين البلدين.
والموقف الهندي في اتهام باكستان تلقائي بالنظر لموقف إسلام آباد الذي لم يتغير باعتبار القسم الذي تسيطر عليه نيودلهي من كشمير محتلا، ودعمها الصريح لحق تقرير المصير للكشميريين، وتبنيها منظمات كشميرية مسلحة وأحزابا سياسية مثل “تحالف أحزاب الحرية” التي تطالب بتقرير المصير، يضاف إلى موقف الهند المعلن بالعمل على إعلان باكستان “دولة راعية للإرهاب”.
أما موقف إسلام آباد في رفض ادعاءات نيودلهي، فيستند إلى تاريخ طويل من الأخبار التي تقول إن الهند دأبت على فبركتها، وتحضير بيئة مناسبة لمهاجمة باكستان، أبرزها تحميل الاستخبارات العسكرية الباكستانية مسؤولية اختطاف طائرة هندية عام 1971 اتُخذ ذريعة للتدخل عسكريا لصالح التمرد في باكستان الغربية (بنغلادش) وفصلها، وعمليات وصفت بالإرهابية داخل الأراضي الهندية ألصقتها نيودلهي بإسلام آباد، وفشلت قضائيا في إثبات ارتباط منفذيها بها.
وسواء كان الهجوم مفتعلا من الهند -وفق الرواية الباكستانية- أو مدبرا من إسلام آباد بحسب الرواية الهندية أو فاجأتهما المنظمات الكشميرية بالمكان والوقت، فإنه خدم إستراتيجية الطرفين، فالهند استغلته لمحاصرة باكستان التي وجدت فيه فرصة ثمينة لتحريك ملف قضية كشمير دوليا.
واعتادت الهند على التهديد بإغلاق الحنفية عن باكستان كلما توترت الأجواء السياسية بينهما، لكن معاهدة مياه نهر السند الموقعة عام 1960 نجت من جميع الحروب والتوترات بين البلدين. وتنص الاتفاقية التي رعاها البنك الدولي على تقاسم أنهر كشمير الستة، وتعتبر حصة الهند 3 أنهار شرق كشمير وهي رافي وبياس وسولتِج، وحصة باكستان 3 أنهار تمر من غرب الإقليم وهي السند وجهلم وتشناب.
تهديد جدي
يشي السياق بأن التهديد بتحويل الأنابيب هذه المرة أكثر جدية من الناحيتين السياسية، لا سيما أنه اقترن بتصعيد عسكري وحملة إعلامية واسعة مبنية على أن الاتفاقية غير منصفة ووقعت بفعل ضغط أميركي كان يميل لصالح باكستان، وأن الواقع الدولي والإقليمي قد تغير لصالح الهند.
لكن الرد الباكستاني لم يقلّ حسما بوصف إلغاء الاتفاقية عملا حربيا يتطلب ردا حاسما، وأن إسلام آباد تمتلك الشرعية الدولية للدفاع عن حقها القانوني والواقعي في المياه التي تصب في أراضيها.
ورغم التفوق العسكري الهندي من حيث الكم (3 إلى 1 من حيث الأفراد والمعدات) فإن خبراء في شؤون جنوب آسيا يرون أن تهديد الهند غير واقعي، لأسباب أهمها:
- الشكوك حول إمكانية تحويل مياه الأنهر من غرب كشمير إلى شرقها.
- مخالفة القوانين الدولية التي تنظم العلاقة بين دول المنبع والمصب والضمان الدولي لاتفاقية حوض نهر السند.
- أيّ تصرف من طرف واحد للأنهر العابرة لكشمير يعطي ذريعة للصين للتصرف بالمثل في رأس النبع القادم من التبت في جبال الهملايا.
- القدرات الصاروخية الباكستانية الهائلة في تدمير أي سد أو خزان مياه يمكن أن تقيمه الهند على الأنهر الباكستانية الثلاثة.
دفعت متغيرات إقليمية ومحلية إلى كسر الجمود في الحالة الهندية الباكستانية، فعلى الصعيد الإقليمي يمكن القول إن نيودلهي خسرت 3 ساحات في محيطها لصالح الصين وباكستان، هي بنغلادش بسقوط رئيسة وزرائها السابقة حسينة واجد والمالديف ووصول الاشتراكي أنورا كومارا ديساناياكي إلى السلطة في سريلانكا.
وقد دخلت بنغلاديش وباكستان بحوار إستراتيجي خلال الأسابيع القليلة الماضية، وتبادلتا زيارات أطقم وسفن عسكرية، وهو ما يدفع نيودلهي إلى الضغط على إسلام آباد من أجل كل أيديها عما تعتبره حديقتها الخلفية، وبدى واضحا وجود تنسيق صيني باكستاني لتنظيم العلاقة مع الدول الثلاث الواقعة في المحيد الهندي.
حملة تطالب برحيل رئيس وزراء #الهند ناريندرا مودي وحزبه عبر وسم #ByeByeModi pic.twitter.com/pzCXHnlHjE
— قناة الجزيرة (@AJArabic) July 3, 2022
مصالح
وهنا تتقاطع المصلحة الهندية مع المصلحة الأميركية في السعي لعزل الصين، والضغط على باكستان لوقف التحالف المتنامي معها، وقد ظهرت حاجة كل منهما للآخر في ظل تذبذب الثقة بين واشنطن إسلام آباد خلال العقود الثلاثة الماضية، مقابل علاقات ثابتة ورصينة مع بكين اختبرها اختلاف الظروف والأوقات.
أما البعد الثالث فقد يكمن في تراجع شعبية حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وقد فقد العديد من انتخابات الولايات المحلية في السنتين الماضيتين، مثل تاميل نادو وكاريلا جنوبا وبيهار شمالا، بما جعل حزب المؤتمر الهندي المعارض يتحفز للعودة للسلطة في أقرب انتخابات، ولا شك أن أسهل وسيلة لاستعادة الشعبية هو وجود تهديد خارجي وإثارة نعرة المصلحة القومية العليا.
وتشير التقديرات إلى أن الهند تسعى إلى حرب محدودة استغلالا لهجوم بهالجام، لتحقق بذلك ردعا لباكستان يحول دون دعم المنظمات المطالبة بحق تقرير المصير، والدخول في تسوية للصراع يكون سقفه الأمر الواقع بعد إلغاء الوضع الخاص لكشمير، ويساعدها في هذه الإستراتيجية تردي الوضع الاقتصادي لباكستان، وانشغال الولايات المتحدة في قضايا ساخنة تمسها مباشرة.
والسيناريو الأقرب يتمثل بنموذج حرب كارغيل عام 1999 عندما فصل الجيش الباكستاني والمنظمات الكشميرية شمال كشمير عن وسطها وجنوبها، ولم تنته الأزمة إلا بإلقاء واشنطن ثقلها لإجبار الجيش الباكستاني على التراجع.
لكن تهديد إسلام آباد بحرب شاملة على أي خرق لأراضيها أو المنطقة التي تديرها من كشمير (كشمير الحرة) أحبط إلى حد بعيد إستراتيجية الحرب المحدودة، وقرع جرس إنذار بحرب نووية محتملة، لا سيما أنها لم تستثن اللجوء للسلاح النووي.
عقيدة نووية
وتبرز هنا العقيدة النووية للدولتين في محدد توسيع الحرب أو إنهائها، فالعقيدة الهندية تقوم على ركيزتين:
- السلاح النووي لمواجهة الصين المنافس الأكبر وليس باكستان.
- عدم البدء باستعمال السلاح النووي.
أما العقيدة الباكستانية فتقوم على أساس:
- السلاح النووي مخصص للهند.
- اللجوء له في حال عدم جدوى الحرب التقليدية بما يحول دون انهيار قوات الأسلحة التقليدية، وفق مبدأ من ينهار أولا يستعمل السلاح النووي أولا.
لقد جرت مياه كثيرة في أنهر تكنولوجيا السلاح منذ آخر مواجهة بين قطبي جنوب آسيا، فدخل الذكاء الاصطناعي مجال الحروب من أوسع أبوابه وتزايد الاعتماد على المسيّرات لتكون وسيلة حرب رئيسية. ويظهر أن الطرفين ما زالا في مرحلة استكشاف كل منهما لقدرات الآخر.
وإذا ما صحت ادعاءات باكستان بإسقاط 5 طائرات من الصناعات الأوروبية الشرقية والغربية في أكبر مواجهة جوية منذ عقود، فإنها تعني تفوق السلاح الصيني-الباكستاني-الأميركي على السلاح الهندي-الأوروبي.
وتعيد السيناريوهات المتوقعة إلى الذاكرة أدوارا اختفت في الصراع الهندي الباكستاني، على رأسها الأمم المتحدة التي أقرت تخيير الكشميريين بين الهند وباكستان باستفتاء شعبي، وأقامت قوة مراقبة على الخط الفاصل بين شقي كشمير. وهي مراقبة لم تعد مجدية في زمن الصواريخ الباليستية والنووية.