استعرض تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز خلاصة ما توصل إليه مراسلوها بعد جولة ميدانية شملت مختلف المحافظات السورية، حيث وثّقوا بالأقوال والصور مشاهد من واقع البلاد بعد سنوات من حكم عائلة الأسد، و13 عاما من الحرب المدمرة.
وأشار كاتب التقرير مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في بيروت بين هابرد، الذي غطّى الحرب منذ بدايتها، إلى أن السوريين باتوا أحرارا نظريا، ولكن الحرب خلفت أكثر من نصف مليون قتيل ومفقود وملايين النازحين ودمارا واسعا للمجتمعات المحلية.
وسلط التقرير الضوء على تطلعات السوريين العاديين وتفاوت مشاعرهم بين الأمل والقلق، في ظل أوضاع اقتصادية متردية وبنية تحتية مدمرة وانقسام سياسي وجغرافي مستمر.
درعا
وبدأت رحلة هابرد من درعا، وبالتحديد من أمام المدرسة التي كُتبت على جدرانها عام 2011 العبارة التي أشعلت الانتفاضة: “إجاك الدور يا دكتور”.
والتقى في المدينة بسميرة الخطيب، والدة الطفل حمزة الخطيب، الذي عذبته أنظمة أمن حزب البعث حتى الموت بعد مشاركته في مظاهرة سلمية.
وقالت سميرة للصحيفة وهي جالسة في غرفة ابنها إنه “كان يحب البسكويت كثيرا، وكان ويقبّلني كل يوم قبل الذهاب إلى المدرسة… ما زلت أحتفظ بملابسه، وأفتقد رؤيته نائما هنا”.
وعلق ابن عم حمزة، خالد الخطيب (51 عاما)، بأن “السنوات الماضية كانت مؤلمة، ولكن كان من الضروري أن نرفع الظلم عن أنفسنا، والآن على الأقل نستطيع أن نتنفس”.

دمشق
ولحظ هابرد أن آثار الدمار والخراب في دمشق كانت أقل مقارنة بدرعا، إذ كانت العاصمة معقل حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد وبقيت بمنأى عن كثير من القصف.
ووصفها بأنها “مدينة تفيض بالحركة والضجيج والحياة والاحتفال”، حيث تكتظ الساحات بالناس نهارا، بينما تكثر الفعاليات الثقافية ليلا، في مشهد لم يكن ممكنا قبل سقوط النظام.
ووفق هابرد، لا يمكن لبريق أجواء الاحتفالات أن يخفي الوجه الآخر للمدينة، إذ حولت الحرب أحياء بأكملها إلى ركام وشتّتت سكانها.
وفي حي القابون، تعيش فداء العيسى مع أطفالها الأربعة وسط أنقاض شقتها المدمرة، وأكدت للصحيفة أنهم يعيشون حياة بدائية، وأن الكهرباء تصلهم لساعتين فقط يوميا، تستغلها الأم لتدفئة المياه وشحن الأجهزة وتشغيل الغسالة.
ورغم صعوبة العيش، تصر فداء على البقاء كي تعود الحياة إلى البلاد، وتحاول إقناع جيرانها اللاجئين في الأردن وتركيا وألمانيا بالعودة.

حمص
ووقف هابرد في حمص أمام مشهد مئات الجنود السابقين في جيش وأمن نظام البعث، مصطفين في طوابير طويلة ورؤوسهم منكسة أمام مركز الشرطة، بانتظار تسلم بطاقاتهم المدنية.
وأوضح التقرير أن هؤلاء الجنود فقدوا وظائفهم وامتيازاتهم عقب سقوط النظام وسلموا أسلحتهم، وهم اليوم يحاولون التأقلم مع واقع الدولة الجديدة.
ولفت إلى أن المشهد يعكس تحديا أساسيا تواجهه سوريا في كيفية التعامل مع من ارتبطوا بالنظام السابق، خصوصا في حمص التي شهدت معارك طائفية بين أحياء علويّة موالية للنظام وأحياء سنية دعمت المعارضة.
وتعرف حمص بكونها عاصمة الثورة السورية، حيث شهدت معارك بين أطراف المعارضة والجيش السوري، وفرضت حكومة الأسد حصارا شديدا عليها دام عامين -أجبر السكان على أكل الأعشاب والنباتات- وتعرضت لقصف يومي مستمر، راح ضحيته 2200 شخص في المدينة.

ونقل التقرير عن أحد رجال المعارضة السابقين، الملقب بأبو حجر (32 عاما)، قوله إنه عاد إلى منزله بعد أن هجره النظام أثناء الحرب، وله الآن دور قيادي في إعادة بناء المدينة.
وفي إشارة منه إلى التوترات في حمص، أكد أن معارضته للنظام كانت سياسية وليست طائفية، ونظم بالتعاون مع مصطفى عبود -زعيم حي يقطنه غالبية علوية في حمص- حافلات لنقل الجنود السابقين من حي الزهراء إلى مركز الشرطة لاستخراج بطاقاتهم الجديدة، بعد أن منعهم الخوف من الخروج فرادى.
ولم يعترف أي منهم بالمشاركة في القتال، حسب ما نقله هابرد، وأصروا على أنهم كانوا يعملون في وظائف لوجستية مثل الحراسة والطهي أو الأعمال الإدارية، وأضاف أحدهم أنه “حتى لو أطلقت قذيفة، فلم يكن القرار بيدي”.

حلب
وقال التقرير إن حلب كانت مركز سوريا الاقتصادي والتاريخي قبل الحرب، وكانت تزخر بالمساجد والكنائس والمصانع والحرفيين، ولكن الحرب حولتها إلى “منطقة كارثية”.
وأوضح التقرير أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في سوريا انخفض إلى ربع ما كان عليه قبل الحرب، وأن البلاد تحتاج لعقود طويلة لتعويض خسائرها الاقتصادية، وفق الأمم المتحدة.
ورصد هابرد هذه الصعوبات الاقتصادية عبر تسليط الضوء على قصة جاك بحّاد، أحد مالكي مصنع بحاد للأثاث في المنطقة الصناعية بحلب.
وكان المصنع يوظّف 40 عاملا قبل الحرب ويصدّر منتجاته إلى الخارج، لكنه دُمّر بعد أن سيطرت عليه فصائل من المعارضة، بحسب بحّاد. أما اليوم، فلا يتجاوز إنتاجه 30% من مستواه السابق، بسبب ضعف الطلب ومحدودية السيولة في البنوك السورية.

تلمنس
واتجه الفريق بعدها إلى قرية بلا أسقف، حيث التقوا بمحمد عبد الرحمن حمادي (38 عاما)، الذي عاد إلى منزله بعد انتهاء الحرب ليجد أن اللصوص هدموا سقف منزله الخرساني وسرقوا قضبان الحديد لبيعها خردة، واضطر لتغطية غرفة بالبلاستيك ليقيم فيها مع عائلته.
وأشار التقرير إلى أن جيش الأسد طرد سكان قرية تلمنس في 2019 واستولى عليها، ثم شهدت القرية عمليات نهب منظمة للأثاث والأسلاك الكهربائية وأنابيب المياه.
وقال أسامة إسماعيل، رئيس المجلس المحلي في تلمنس، إن معظم المنازل والمساجد في القرية دُمرت، ولم يعد إليها سوى أقل من 10% من سكانها الذين بلغ عددهم قبل الحرب 28 ألف نسمة.

أطمة
وفي نهاية الرحلة، توجه المراسل إلى مخيم لاجئين على الحدود التركية في شمال سوريا، حيث عانى السكان من ظروف صعبة على مدى 13 عاما، ولكنهم باتوا قادرين على العودة الآن.
وتحدث المراسل لخالد الحاج (53 عاما)، أب لـ6 أطفال، وهو يحمل أمتعته القليلة على شاحنة استعدادا للعودة إلى قريته بعد سنوات من الاعتماد على المساعدات والأعمال المؤقتة.
وكان الحاج متفائلا بانتهاء الحرب وأكد للصحيفة أنه ظل متيقنا من عودته، وأن أسرته نزحت عام 2012 من كفر زيتا إلى شمال غرب سوريا تحت سيطرة الثوار، واستقروا في المخيم الذي تطور تدريجيا من خيام إلى غرف بسيطة.
ومع سقوط النظام، قرر الحاج العودة لإصلاح منزله المتضرر والعيش فيه، وكان قد زرع شجرة خوخ بجانب خيمته، وعبر عن أمله في أن تنمو الشجرة وتثمر ليتمكن القادمون من التمتع بثمارها، ثم غادر المخيم متوجها إلى وطنه.