لقي اقتراح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بضم كندا إلى الولايات المتحدة ردود فعل غاضبة في الجارة الشمالية، ومنذ تولي ترامب السلطة، في 20 يناير الماضي، ظلت العلاقات بين البلدين مشحونة ومتوترة إلى حد ما، وعلى المستوى الشعبي كان هناك توافق شبه تام على استقلال كندا وهويتها المختلفة.
صعد شخص على خشبة المسرح، الأسبوع الماضي، في مونتريال، وكان يلوّح بعلم كندي ضخم، بينما يقترب بحذر من «الميكروفون»، وقال مخاطباً حشداً كبيراً: «أنا لست حطابا، أو تاجر فراء، لدي رئيس وزراء، وليس رئيساً، أتحدث اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وليس الأميركية، وأنا أنطق الكلمات الإنجليزية بطريقة مختلفة».
يزداد الحشد، الذي بدا غير مبالٍ في البداية، حماساً.. ثم يصرخ الرجل على المسرح: «كندا لديها ثاني أكبر مساحة، وهي أول دولة في الهوكي، وأفضل جزء في أميركا الشمالية»، ثم يقول: «اسمي جو، وأنا كندي».
وكان الإعلان عن مشروب «مولسون» الكندي شائعاً للغاية عندما تم بثه في وسائل الإعلام المحلية عام 2000، والآن مع تعرض هوية كندا وسيادتها للتهديد عاد الإعلان إلى الوعي العام.
وفي الأسابيع الأخيرة، استيقظت الروح الوطنية الكندية استجابة لتهديد ترامب بأن الولايات المتحدة يمكن أن تضم جارتها الشمالية، حيث دفعت تهديداته إلى مزيج من عدم التصديق والتحدي، لكن بطريقة كندية للغاية أحيت أيضاً أسئلة حول تعقيدات الهوية الوطنية.
رسم كاريكاتيري
بدأ ترامب حملته من التصعيد الدبلوماسي قبل أن يتولى منصبه، حيث شكك في جدوى كندا كأمّة، واقترح أنها يمكن أن تصبح الولاية الأميركية رقم 51، وسخر من رئيس الوزراء، جاستن ترودو، باعتباره «حاكماً» لمقاطعة.
ورداً على ذلك، لجأ الكنديون إلى التعبير عن رفضهم بأساليب عدة، ومن خلال أعمال وطنية، صغيرة وكبيرة، إذ طار أحد الطيارين بطائرته الصغيرة على شكل ورقة القيقب (رمز كندا)، وأطلق مشجعو الرياضة صيحات الاستهجان ضد الفرق الأميركية.
وانتشرت القبعات التي تحمل عبارة «كندا ليست للبيع» بشكل كبير، وتعهد المستهلكون بشراء المنتجات المصنوعة في كندا فقط، وهو التعهد الذي تم تجسيده في رسم كاريكاتيري، انتشر على نطاق واسع، يوبخ من خلاله أحد المتسوقين آخر لشراء «الكاتشب» الأميركي، وسأل المتسوق: «ماذا تفعل؟»، ثم قال: «نحن في حرب تجارية، أيها الخائن».
وقال ديلان لوبو، الذي يدير موقع «صنع في كندا» الإلكتروني، الذي يعرض المنتجات المصنوعة في البلاد: «لقد كان الأمر مجنوناً ومُربكاً تماماً، نحن نكافح للتعامل مع الطلبات الكثيرة، والناس محبطون حقاً ويريدون إيجاد طريقة لدعم الكنديين وشراء المنتجات الكندية».
سياسات انقسامية
كان العلم الوطني حاضراً في الحملات، وأدرك الساسة أهميته في الانتخابات الوشيكة.
وفي إظهار للوحدة الحزبية، دعا خمسة رؤساء وزراء سابقين إلى الوحدة الكندية، وكتب القادة في بيان: «نحن جميعا نتفق على شيء واحد: كندا، الشمال الحقيقي، القوي والحُر، أفضل دولة في العالم، تستحق التقدير والقتال من أجلها».
وأظهر استطلاع رأي حديث أن المشاعر المؤيدة للهوية الكندية ارتفعت في الأسابيع الأخيرة، مع أكبر قفزة في مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسية، وهي منطقة مترددة تاريخياً تجاه «الوطنية الفيدرالية».
ويمثل هذا التحول انتعاشاً كبيراً من عام 2020، عندما غيرت السياسات الانقسامية لجائحة «كورونا» كيفية نظر العديد من الكنديين إلى العلم، لاسيما بعد أن تم الاستيلاء على الراية الوطنية من قبل احتجاجات قافلة الحرية اليمينية المتطرفة في أوتاوا.
في الوقت نفسه تم وضع ضغوط جديدة على الهوية الوطنية الكندية وسط اعتراف متزايد بالظلم التاريخي المرتكب ضد الشعوب الأصلية.
وتم هدم تماثيل الملوك والرجال المؤسسين، وإعادة تسمية المباني وسط مناقشة وطنية ساخنة حول إرث الحكم الاستعماري.
الشعور بالخيانة
وقال زعيم منطقة «جول باي» للسكان الأصليين، ويلفريد كينغ: «لقد أيقظت تعليقات ترامب بشأن الضم شيئاً ما في الناس بالتأكيد»، مضيفاً: «لكنني أعتقد أننا بحاجة أيضاً إلى أن نتذكر على جانبي الحدود أن السكان الأصليين في كندا هم الوحيدون الذين يمكنهم حقاً التحدث عن السيادة الحقيقية في هذا البلد».
وعلى عكس الحملات الاستعمارية الأخرى، أكد كينغ أن التاج البريطاني عقد تحالفات مع السكان الأصليين في ما يُعرف الآن بكندا، «لم يكن هناك استسلام للقوى الخارجية».
وأضاف كينغ، الذي خدم والده في الجيش خلال الحرب العالمية الثانية: «عندما كان هناك أزمة وصراع، استجبنا للنداء وتطوع السكان الأصليون أكثر من أي مجموعة أخرى للقتال إلى جانب حلفائهم في كلتا الحربين العالميتين، وعندما عادوا إلى ديارهم تم تهميشهم، لقد رأوا كيف يكون الشعور بالخيانة من قبل صديق».
وهكذا فإن الطبيعة المتوترة لعلاقة كندا بالولايات المتحدة مألوفة بشكل صارخ لشعوب البلاد الأولى، وفي ذلك قال كينغ: «إنهم (الكنديون) يشعرون فقط بما كنا نشعر به على مدى السنوات الـ175 الماضية، هذه هي الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع الأمم الأولى في كندا». عن «الغارديان»
تاريخ معقد ومظلم
بالنسبة لجيف دوغلاس، الذي لعب دور «جو كندا»، في حملة إعلانية شهيرة عام 2000، فإن الارتفاع الأخير في الوطنية أثار مشاعر مختلطة.
وقال: «لم تكن الوطنية شيئاً يتردد صداه حقا معي، وكنت أجهل تماماً مجمل التاريخ الكندي عندما صنعنا الإعلان».
وأضاف دوغلاس، الذي أصبح لاحقا شخصية إذاعية شهيرة لهيئة الإذاعة الكندية، إن العقود التي قضاها في لقاء مجموعات مختلفة في جميع أنحاء البلاد عمقت فهمه للتاريخ المعقد والمظلم لكندا، وتابع المذيع الكندي: «أعتقد أنه لايزال بإمكاننا أن نفتخر، علينا فقط أن نكون على دراية»، مستدركاً: «أن نكون على دراية بأخطاء الماضي والأخطاء المستمرة في الحاضر، لا يعني أننا لا نستطيع أن نفخر بكوننا كنديين، لا يمكن أن يأتي الفخر بكوننا كنديين على حساب هذا الوعي».
رفع الأعلام
الاحتفالات الوطنية هذا العام ستكون مختلفة. أرشيفية
ترى أستاذة العلوم السياسية في جامعة «غيلف»، جولي سيمونز، أن الوطنية الكندية كانت متقلبة على مدى العقود القليلة الماضية.
وتقول: «منذ عام 1985 تقريباً، شهدنا انخفاضاً في أعداد الأشخاص الذين يشعرون بأنهم فخورون بكونهم كنديين، وانخفضت هذه الأعداد تدريجياً»، مضيفة: «لكننا شهدنا ارتفاعاً مع الألعاب الأولمبية في عام 2010، وأعتقد أننا نستطيع أن نعزو بعض الانخفاضات الأخيرة حتى الملحوظة اعتباراً من ديسمبر إلى تجربة الناس مع التضخم».
لكن منذ تهديدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية، أكدت سيمونز أنها شهدت زيادة في «الفخر الكندي» لم يسبق لها مثيل.
وجاء ذلك في توقيت جيد مع اقتراب يوم العلم الوطني لكندا، وتتوقع أن يتم الاحتفال به أكثر مما كان عليه من قبل.
وقالت سيمونز: «أعتقد أن تشجيع خمسة رؤساء وزراء كنديين سابقين على رفع الأعلام يشير إلى أن الأمر أكبر هذا العام مما كان عليه في السنوات الماضية».
وأضافت أستاذة لعلوم السياسية: «الناس فخورون بكونهم كنديين لعدد من الأسباب، فلدينا رعاية صحية عامة، ونحن أكثر مساواة، كما لدينا مدارس عامة عالية الجودة، ولدينا أيضاً تقليد طويل من الاحترام واللطف والعمل بروح الفريق على المستوى الوطني والدولي».
وأكدت أن «هذا الاتجاه لا يُظهِر أي علامات على التباطؤ، ورغم وجود ضغوط اقتصادية خارجية، فإن كندا لاتزال قادرة على الاستفادة، والمكسب الفوري الذي قد نراه هو إزالة الحواجز التجارية الداخلية».
تهديد وجود
إقبال كبير على العلم الكندي في الآونة الأخيرة. أرشيفية
بينما يقول المذيع الكندي، جيف دوغلاس، إن التحول «الأعمى» نحو الوطنية لا يخدم الأهداف الأوسع نطاقاً المتمثلة في التخلص من الظلم، فإنه يعكس أيضاً الطبيعة «الديناميكية» لعلاقة الناس ببلدهم.
ويضيف: «ستكون هناك أوقات تحتاج فيها فقط إلى أن تقول: نحن بحاجة إلى أن نكون أقوياء ونواجه المستقبل، إذا كان هذا ما تحتاج إليه البلاد للتغلب على التهديد الوجودي الذي نواجهه».
ويأمل المذيع الكندي أن يخدم الهوس الحالي بتعزيز الهوية الكندية في مواجهة التهديدات التي تواجه البلاد غرضاً أوسع.
ويؤكد: «حبي لبلدي، أو بالأحرى الشعب الكندي، هو حب لما يمكننا تحقيقه».
. خمسة رؤساء وزراء سابقين دعوا إلى الوحدة الكندية.
. ضغوط جديدة على الهوية الوطنية الكندية، وسط اعتراف متزايد بالظلم التاريخي ضد الشعوب الأصلية.