يشير القائد المسؤول عن خفر السواحل الذي يضمن سلامة خليج فنلندا، ميكو سيمولا – وهو على متن سفينة الدورية العملاقة «تورفا» – بأُصبعه شرقاً، نحو المضيق البحري الوحيد الذي يصب – بعد عبور هلسنكي وتالين – في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية.

وفي تلك المنطقة يراقب سيمولا وطاقمه السفن الحربية الروسية تمر أمام أعينهم منذ ثلاث سنوات، ويعد «وجودها أكبر بكثير».

وكذلك الحال بالنسبة لما يسمى «ناقلات الظل»، الأسطول المتهالك الذي يستخدمه الكرملين للتهرب من العقوبات الغربية، والذي تستمر حركته متفادية العقوبات، بمعدل يراوح بين 30 و50 سفينة أسبوعياً.

ومنذ أول قصف روسي لأوكرانيا في فبراير 2022، شهد سيمولا كل شيء، حيث اعترضت «تورفا»، تحت قيادته في عيد الميلاد الماضي، إحدى ناقلات النفط التابعة لأسطول الظل (إيغل إس) المتهمة بقطع «كابل» كهربائي تحت الماء وأربعة كابلات بيانات. وقال: «أشعر بأن هذه لن تكون المرة الأخيرة، فمهما حدث في أوكرانيا، لن يتوقف الكرملين أبداً عن استخدام هذا الممر المائي الرئيس في فنلندا».

لحظة حرجة

وعلى الرغم من أن فنلندا ليست من الدول المتضررة بشكل مباشر من أسراب الطائرات بدون طيار، والهجمات الإلكترونية التي هدّدت تقريباً بعض جيرانها في الاتحاد الأوروبي خلال الأسابيع الأخيرة، فإن هلسنكي وسكانها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة تقريباً يمرون بلحظة حرجة.

ويستند هذا الخوف إلى تاريخها الخاص وإلى حقيقة موضوعية هي أن حدودها مع روسيا الأطول في القارة العجوز بأكملها.

وكان رئيس الوزراء الفنلندي بيتيري أوربو، قال خلال الزيارة الأخيرة لمفوض الدفاع الأوروبي أندريوس كوبيليوس إلى هلسنكي: «نحن إلى جانب دول البلطيق وبولندا، ندافع عن أوروبا بأكملها. وهنا نحتاج إلى التضامن من أجل الأمن المشترك، وهذا أمر يجب أن تفهمه بقية أوروبا».

بدوره، قال رئيس فنلندا، ألكسندر ستاب، الثلاثاء الماضي، في لقاء مع صحيفة «إل باييس» وعدد من وسائل الإعلام الأوروبية: «إذا تعلمنا شيئاً، فهو أنه مع روسيا، لا شيء مستحيل».

حياد تاريخي

والخوف موجود وواضح، فحدود فنلندا البرية مع روسيا هي الأطول بين جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بطول 1300 كيلومتر، أي أطول بثلاث مرات من حدود روسيا مع إستونيا.

كما تشترك فنلندا في تاريخ مع روسيا، حيث كانت جزءاً من إمبراطوريتها حتى عام 1917، وحتى فبراير 2022 حافظت على موقف ما بين الحوار والتهدئة.

ولسنوات بل لعقود، عانت فنلندا بشكل مباشر انتهاكات المجال الجوي نفسه التي تؤثر الآن في دول أخرى شمال أوروبا وشرقها، لكن الزمن تغير، حيث يُنظر إلى حرب أوكرانيا على أنها أكثر من مجرد تحذير.

وفي مواجهة هذا التهديد، اتخذت هلسنكي خطوة لا يمكن تصورها تقريباً في عام 2023، فقد تخلت عن حيادها التاريخي، وقررت الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). وبالتالي تمكنت من حماية نفسها تحت مظلة عسكرية قوية ضد جارتها الشرقية التي أصبحت تصرفاتها غير قابلة للتنبؤ على نحو متزايد، ونجحت عملياً في مضاعفة طول حدود التحالف مع روسيا.

وكان الانضمام إلى حلف الأطلسي الذي كان يُعد أمراً غير مرغوب فيه حتى وقت قريب، يحظى بدعم 70% من السكان، وفقاً لاستطلاعات الرأي، وظل هذا الدعم مستقراً تقريباً منذ ذلك الحين، وفقاً لأستاذ علم الاجتماع العسكري في أكاديمية سانتاهامينا العسكرية، تيمو تالبيرغ.

دعم شعبي

ويُقدّم الخبير إحصائية إضافية ظهرت نتائجها في أحدث استطلاعات الرأي، تفيد بأن ثمانية من كل 10 فنلنديين سيحملون السلاح للدفاع عن أنفسهم، في حال تعرُّض بلادهم لهجوم. ويقول تالبيرغ: «سيفعلون حتى لو كانت النتيجة النهائية للصراع غير مؤكدة».

والسبب وراء هذا الدعم الشعبي واضح، فبعد أكثر من ثمانية عقود من عدم شعورهم بضغط موسكو عليهم – منذ حرب الشتاء 1939-1940عندما اقتحمت القوات السوفييتية الدولة الإسكندنافية، وهي حادثة يرى البعض فيها أوجه تشابه مع الوضع الحالي في أوكرانيا – عادت الاضطرابات إلى الواجهة.

تخفيف الضغط

والأسباب واضحة، ففي مايو الماضي أكدت صور عدة التقطتها الأقمار الاصطناعية نشر آلاف الجنود الروس عبر الحدود، ربما لتخفيف الضغط عن القوات المنتشرة حالياً في أوكرانيا، وربما لأهداف أخرى. وعلى أي حال، دفعت هذه المناورات قائد قسم الاستراتيجية في الجيش الفنلندي، سامي نورمي، إلى الحث على «مراقبة دقيقة للغاية». وقال إن مهمته – في عبارة كرّرتها 10 مصادر رسمية تواصلت معها صحيفة «إل باييس» – هي «الاستعداد للأسوأ». ويشير آخر حسابات نورمي إلى أن عدد الجنود الروس المتمركزين عبر الحدود حالياً يراوح بين ضعفين وثلاثة أضعاف لما كان عليه قبل حرب أوكرانيا.

الحدود الفعلية

ومع ذلك، تتجه الأنظار نحو الحدود الفعلية مع روسيا، على بُعد نحو 125 ميلاً شرقاً، وهناك تعمل الحكومة الفنلندية منذ عامين على بناء سياج سيغطي سُبع الحدود، ولن يمنع ارتفاعه البالغ 4.5 أمتار، بالطبع، التسلل الجوي غير المرغوب فيه، وهو مصدر قلق جديد في بولندا ورومانيا، لكنه واقع مزعج منذ سنوات.

ومع ذلك يهدف السياج إلى وقف تدفق المهاجرين من دول أخرى الذي ارتفع بشكل كبير في صيف عام 2023، وتُلقي هلسنكي باللوم فيه مباشرة على موسكو. والعواقب الاقتصادية لإغلاق الحدود واضحة.

محلياً، ومع إغلاق المعابر بين البلدين حتى إشعار آخر، تتحمل المدن الحدودية العبء الأكبر، بخسائر مالية فادحة ومعدل بطالة متزايد باستمرار، حيث عاشت تلك المدن على أموال العابرين من جانب إلى آخر، ولن يعبر أحد تلك الحدود مرة أخرى لفترة طويلة. عن «إل باييس»


سيناريو طوارئ

لعقود كانت السلطات الفنلندية مهووسة بكلمة واحدة وهي «الصمود»، النسخة الحديثة والمحسّنة قليلاً من المقاومة التقليدية. إن الفنلنديين يستعدون، باختصار، لسيناريو طوارئ لم يحدث بعد لحسن الحظ. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتفسير وجود ملاجئ جاهزة لجميع السكان في البلاد. وهناك 50 ألف ملجأ، معظمها تحت الأرض، مع كل ما يلزم لتغطية أول 72 ساعة على الأقل من حرب محتملة، وهي الفترة الأكثر حرجاً. الركيزة الثانية لاستراتيجية فنلندا الأمنية التي تفتخر بكونها الأكثر تقدّماً بين دول الاتحاد الأوروبي الـ27، هي الخدمة العسكرية، حيث إنها طالما كانت إلزامية على الرجال، وهو أمر نادر في الاتحاد الأوروبي، لكنها اكتسبت زخماً في بقية دول أوروبا خلال الفترة الأخيرة.

• فنلندا عانت بشكل مباشر انتهاكات المجال الجوي نفسها التي تؤثر في دول أخرى شمال أوروبا وشرقها.

• الحكومة الفنلندية تبني منذ عامين سياجاً حدودياً مع روسيا يبلغ ارتفاعه 4.5 أمتار.

شاركها.