يتخذ مفهوم النصر معنى رمزيا في وعي الشعوب، وصفة ذاتية تقوم على اعتبارات وأولويات، ومضمونا مركبا يجمع بين مزيج من العوامل المادية والمعنوية، وفقا لآراء العديد من المنظرين في المجال العسكري والسياسي.
ورغم أن تحديد المنتصر من المهزوم يثير تباينا في الآراء، فإنه يكتسب صفة خاصة في حالة حروب التحرر، بفعل طول أمدها، وتزايد أهمية البعد المعنوي فيها، في ظل اختلال ميزان القوى المادي لصالح المحتل في العادة.
وفي ظل الحرب الجارية في قطاع غزة، يكتسب هذا الموضوع أهمية، بفعل الجدل الواسع حول مستقبل الصراع وتداعيات المعركة على مستقبل مسيرة التحرر الفلسطيني.
الجهد الاستعماري
لا ينحصر الجهد الاستعماري في البعد العسكري، بل هو مشروع هيمنة يبدأ بالفكر، ويوظف الثقافة والعلم والاقتصاد والقوة العسكرية لتحقيق مآربه، وفي المقابل فإن حروب التحرر تواجهه في هذه المجالات جميعا.
وتناولت العديد من الأعمال الفكرية مفهوم النصر والهزيمة وعوامل تحققهما، ويتضح في مجموع هذه الأعمال محورية البعد الثقافي والنفسي، من حيث صلابة الإرادة والمنظور الذاتي لكل طرف في تحديد نتيجة أي صراع، وخصوصا في حروب التحرر.
وممن تناول هذه الموضوعات المنظرين العسكريين كارل كلاوزفيتز وأندريه بوفر، والزعيم الصيني ماوتسي تونغ، والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
نزع السلاح
يبرز مفهوم الإرادة الوطنية كمحور لنشوب الحرب وانتهائها، في المنظور العسكري التقليدي، إذ يعرّف المنظر العسكري الشهير كارل كلاوزفيتز، الحرب في كتابه “من الحرب” بأنها “عمل من أعمال العنف يهدف إلى إجبار خصمنا على تنفيذ إرادتنا، لذا، فإن العنف أي القوة المادية هو الوسيلة، وخضوع العدو الإجباري لإرادتنا هو الهدف النهائي”.
ولتحقيق هذا الهدف بالكامل، يجب نزع سلاح العدو، وبالتالي يصبح نزع السلاح الهدف المباشر للأعمال العدائية نظريا.
ويبرز هذا المفهوم في الموقف الإسرائيلي الساعي إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية في غزة، إذ يعده تجسيدا للنصر الذي يسعى إليه، وضمانة لإضعاف العمل المقاوم كما ونوعا في المستقبل.
صراع الإرادة
كما يبرز دور المشاعر في الحرب لدى كلاوزفيتز إذ يقول: “إذا كانت الحرب فعلًا من أفعال القوة، فهي بالضرورة مرتبطة بالمشاعر. وإذا لم تنبع من المشاعر، فإنها تتفاعل معها، بدرجة أو بأخرى، ولا يعتمد مدى هذا التفاعل على درجة الحضارة، بل على أهمية المصالح المعنية ومدتها”.
ويلقي هذا المنظور الضوء على مركزية البعد المعنوي في بدء الحرب وإنهائها، وفي تقدير الشعوب لكونها منتصرة أو مهزومة في أي حرب.
وبدوره يرى “أندريه بوفر”، المنظر العسكري ورئيس أركان حلف الناتو الأسبق، في كتابه “مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية” أن الحرب صراع إرادات نتيجتها “حدث نفسي نريد وقوعه عند العدو ليدفعه إلى الاقتناع بأن الاشتباك أو متابعة الصراع أمر غير مجدٍ”.
وبذلك فإن تعريف الهزيمة عند بوفر هو أنها حالة نفسية، قبل أي شيء آخر، وبالتالي فإن أي شعب ساع للتحرر، ويرفض الاستسلام لإرادة الاحتلال أو الاعتراف بشرعيته لا يمكن عدّه مهزوما وفقا لهذا التعريف.
النصر والتضحية
ومن واقع تجربته الطويلة في الحرب، قدم قائد الثورة الشعبية في الصين، ماو تسي تونغ، في كتابه “حرب العصابات”، نظرية في الحرب الثورية، عرّف فيها النصر بأنه “القضاء على النظام القديم وإقامة نظام جديد يتوافق مع تطلعات الجماهير”.
ونصر كهذا لا يمكن تحقيقه بسرعة في العادة، ولكنه يكون نتيجة “للحرب المطولة التي تستنزف قوة العدو وتزيد قوتنا تدريجيا”، وفي هذه المسيرة الطويلة لا ينبغي أن تنفصل الحرب عن الجماهير، لئلا “تفقد روحها وتصبح مجرد قوة عسكرية عاجزة.. هذه بداية النهاية”، فالشعب هو الماء، وحرب العصابات هي السمكة التي تسبح فيه، ومن دون الماء تموت السمكة.
ووفقا لماو فإن مبدأ الحرب، وأساس كل المبادئ العسكرية، هو المحافظة على الذات وإفناء العدو.
وفي حين أن “كل حرب تتطلب ثمنا، وقد يكون هذا الثمن باهظا جدا في بعض الأحيان”، فإن ذلك لا يتعارض مع مبدأ الحفاظ على الذات، بل هو متحد معه، “ذلك أن مثل هذه التضحية أمر لا مندوحة عنه، ليس من أجل إفناء العدو فحسب، بل من أجل المحافظة على الذات أيضا”.
وفي حالة الحرب في قطاع غزة، يظهر أن سقف أهداف الاحتلال هو القضاء على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من خلال تهجيره والسيطرة على الأرض، وهو ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرارا.
وعند عدم تمكنه من ذلك فإن الحد الأدنى من الأهداف هو إقامة نظام جديد في قطاع غزة بما يتفق مع مصالح الاحتلال، إضافة إلى تجريد المقاومة من سلاحها وتهجير المئات أو الآلاف من قادتها وكوادرها.
وفي مواجهة استمرار العمل المقاوم، وعجز الاحتلال عن الاستقرار في القطاع، أصبح عزل المقاومة عن جمهورها أولوية لمشاريع الاحتلال، كما في مشاريع “الفقاعات الإنسانية، أو ربط توزيع المساعدات الإنسانية بالتحقق الأمني ودعوة الفلسطينيين إلى الانتقال إلى مناطق يديرها عملاء للاحتلال، كما في حالة المليشيا التي أنشأها ياسر أبو شباب” في شرق رفح.
ويضاف لذلك، الجهد الدعائي المباشر أو من خلال أصدقاء أو حلفاء الاحتلال والدول المطبعة معه والمسالمة له، وهو ما شكل جبهة مواجهة ثقافية ونفسية ساحتها الإعلام بمختلف أنواعه.
جبهة الحرب الثقافية
يقدم الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي مفهوما خاصا للنصر، أو الهيمنة السياسية، كما رصدها من خلال انخراطه في العمل السياسي في إيطاليا في عشرينيات القرن الماضي.
واتخذ غرامشي من مفهوم “الهيمنة الثقافية” معيارا منهجيا في بحث طبيعة الصراع السياسي، مشيرا إلى “أن تفوق فئة اجتماعية يتجلى بطريقتين، من حيث السيطرة، ومن حيث القيادة الفكرية والأخلاقية”.
ويرى الفيلسوف الإيطالي -وفقا لمجموعة من رسائله المنشورة في كتابه “دفاتر السجن”- أن النصر الثوري يحصل بمزيج من العمل العسكري والثقافي، مسميا الأول “حرب الحركة” أو “حرب المناورة”، ومسميا الثاني “حرب المواقع”.
ويركز على مركزية دور النضال الثقافي والفكري طويل الأمد في تحقيق الانتصار، الذي يعد مكملا ومتناوبا مع الحرب العسكرية، وبذلك فإن تحقيق “الهيمنة الثقافية” يعد شرطا سابقا لتحقيق النصر العسكري والحفاظ عليه.
وفي حين يرى غرامشي أن حرب المناورة العسكرية هي الأنسب لمواجهة الأنظمة المستبدة، وهو ما يتفق مع حالة مواجهة الاستعمار كما في نظرية الفيلسوف الفرنسي فرانز فانون، فإنه يرى أن حرب المواقع الثقافية هي الأنسب في الدول التي تحوي مجتمعا مدنيا فاعلا ومؤثرا كما هو الحال في الدول الغربية.
ورغم أن ملاحظات غرامشي مقدمة في الأساس لتفسير حالات الثورة الشعبية ضد أنظمة مستبدة، فإنها تقدم خلاصات يمكن الاستفادة منها في حالات أخرى من الصراع، كحروب التحرر الوطني.
الصراع على الوعي
وفي الحرب الدائرة في غزة، يظهر حجم الصراع على توجيه الجماهير داخل غزة وخارجها، بهدف تحديد نتيجة المواجهة في مختلف مجالات الصراع، وذلك من خلال السرديات المتعارضة والمتناقضة بين الاحتلال ومؤيديه من جهة والمقاومة ومؤيديها من جهة أخرى، بشأن طبيعة المعركة وأسبابها وجدواها وأفقها.
وينبني على مدى انتشار وقبول هذه السرديات أثر بالغ على سلوك الشعوب والقوى السياسية داخل فلسطين وخارجها.
وفي حين يظهر تراجع شعبية الاحتلال حول العالم وفقا للعديد من استطلاعات الرأي، وخصوصا في الدول المؤيدة له تقليديا، فإنه يركز جهوده على تغيير الوعي داخل غزة لفرض نتيجة سياسية وعسكرية مقبولة لديه، من خلال توظيف العنف والتجويع لصياغة وعي خاضع له أو متواطئ معه.
وبذلك يكون تركيزه على فرض وقائع صلبة يتفوق فيها بـ”حرب المناورة”، بينما يتسبب سلوكه ذلك في خسائر أكبر وأعمق أثرا في “حرب المواقع” أو الثقافة والوعي حول العالم. وهو ما يعد أمرا بالغ الضرر والحساسية بالنسبة لدولة اعتمدت على هذا الدعم في إنشائها وتعتمد عليه لحمايتها وضمان بقائها.
وفي المقابل، فإن تكثيف جرائم الحرب على أهل القطاع، وإدامة الحصار، والضخ الإعلامي المعادي للمقاومة، يؤثر شيئا فشيئا على الرأي العام في قطاع غزة بشأن جدوى الحرب وآفاقها، إذ يظهر استطلاع رأي نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في السادس من مايو/أيار 2025 أن تأييد عملية طوفان الأقصى بين سكان غزة انخفض عما كان عليه في مارس/آذار 2024.
أما في الضفة الغربية فإن النتائج تختلف، وإن كان اتجاهها متأثرا بالعوامل نفسها الضاغطة على غزة، إذ انخفضت نسبة تأييد قرار طوفان الأقصى عما كانت عليه في ديسمبر/كانون الأول 2023.
وتأتي هذه النتائج في ظل عمل إعلامي مكثف للاحتلال والدول الداعمة له والمطبعة معه والمسالمة له، بالتوازي مع تضييق الخناق على مختلف أشكال دعم المقاومة، وتجريم أعمال مناصرتها.
وكان لكل ذلك أثر مرغوب للاحتلال بشأن فرض وعي متواطئ معه، وخاضع لإرادته، رغم أن الإحصاءات واستطلاعات الرأي حول العالم تفيد بتعمق خسائر الاحتلال وانحسار التأييد له، وهو ما انعكس على المواقف الدولية بشأن رفض استمرار الحرب والحصار على غزة في الأشهر الأخيرة.
وصوتت 14 دولة من أصل 15 في مجلس الأمن في مطلع يونيو/حزيران 2025 على مشروع قرار يطالب بوقف الحرب في غزة، ولم يوقفه إلا الفيتو الأميركي.
الحرية أو الخضوع
وفي المحصلة، فإن النتيجة النهائية لحرب التحرر تنحصر بين أمرين، إما نيل الاستقلال والحرية، أو التخلي عن حلم الحرية والخضوع لإرادة المحتل.
وبخلاف استقرار إحدى الحالتين فإن نتيجة أي حرب عسكرية لا تكون نصرا مطلقا ولا هزيمة مطلقة ولا نهائية، وفقا لكلاوزفيتز، فإن “الدولة المهزومة غالبا لا ترى فيما أصابها سوى شرّ عابر، يمكن معالجته لاحقا بالحلول السياسية”.
وفي مقابل العمل العسكري والثقافي للاحتلال، فإن صمود رواية الشعب الفلسطيني عموما ومقاومته خصوصا بشأن الحرب وعدالتها يعد أمرا جوهريا في تثبيت المواقع المتقدمة التي كسبتها الحرب الثقافية بفعل أداء المقاومة العسكري من ناحية، وجرائم ووحشية الاحتلال من ناحية أخرى.