واشنطن- اهتزت دوائر السياسة الخارجية الأميركية أثناء مشاهدة عبور أحدث الأسلحة والمعدات العسكرية الصينية المتقدمة أمام قادة محور تعتبره واشنطن يجمع الخصوم المنافسين لها بزعامة الرئيس الصيني شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإلى جوارهما الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في قلب العاصمة الصينية.

ورغم أن الهدف الرسمي من العرض العسكري أمس الأول الاحتفال بالذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن الرئيس دونالد ترامب لم يكن ليدع تلك المناسبة تمر دون أن يضع عليها بصمة غير تقليدية.

وغرد ترامب على منصة تروث سوشيال مؤكدا أن هذا التجمع يستهدف في المقام الأول الولايات المتحدة ومصالحها، قائلا للرئيس الصيني “أرجوكم تقديم أحر تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، إنكم تتآمرون معا ضد الولايات المتحدة الأميركية”.

ثم قال ترامب في المكتب البيضاوي، أثناء قمته مع الرئيس البولندي يوم الأربعاء، “كانوا يأملون في أنني أشاهد، وكنت أشاهد”، في إشارة إلى العرض العسكري.

وقبل أكثر من نصف قرن، وتحديدا عام 1972، حطت طائرة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في بكين معلنة بداية انفتاح أميركي واعتراف رسمي بالجمهورية الصينية، في خضم الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

آنذاك، استثمر نيكسون، -بتخطيط من مستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر– الانقسام العميق والخلافات المتصاعدة بين موسكو وبكين، أما الصور التي خرجت من الصين أول أمس، فقد حملت رسالة واضحة مفادها أن مثل هذا الشرخ لم يعد قائما اليوم.

واعتبر عدد من المعلقين الأميركيين أن العرض العسكري في بكين بمثابة فرصة سريعة استغلتها الصين بعد أيام من استضافتها لقمة مع بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وزعماء آخرين، مما أدى إلى تعميق العلاقات بين القوى الكبرى غير المتحالفة مع الغرب.

وأصدر الحاضرون بيانا الأسبوع الماضي أدان بشدة “العدوان العسكري الذي شنته إسرائيل والولايات المتحدة على إيران” في يونيو/حزيران الماضي.

من هنا، شارك أنصار إسرائيل بواشنطن في القلق من الرسائل الصينية خاصة بعدما وصفت الخارجية الصينية قبل أيام حرب إسرائيل على قطاع غزة بأنها “إبادة جماعية”، وذكرت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، والمعروفة بقربها من تبني المواقف الإسرائيلية، أنه في الشهر الماضي، اتهمت بكين الولايات المتحدة بـ”العمل كشريك في الإبادة الجماعية في غزة”.

 

رسالة شي لترامب

ويرى عدد من المعلقين أن الصين ترى إسرائيل دولة صغيرة، ومواقفها منها لا تتعلق بإسرائيل بقدر ما تتعلق بالمصالح العالمية للصين، والقول إن الولايات المتحدة تدعم الإبادة الجماعية في غزة لا يتعلق بإسرائيل، ولكن بالولايات المتحدة وجنوب الكرة الأرضية.

وكان من الواضح أن الصين، وفي وجود أكثر من 20 رئيسا وملكا أجنبيا، أرادت للعالم، -وخاصة الغربي منه-، أن يشاهدوا أحدث الدبابات والمركبات والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والعابرة للقارات، والقاذفات الحديثة، وغيرها.

وأن يدركوا حجم التغيرات الحادثة في دول الجنوب، وأن قيادة وهيمنة الولايات المتحدة، خاصة في ظل سياسات ترامب الخشنة سواء ما يتعلق بفرض تعريفات تجارية عقابية، أو اللجوء لاستخدام القوى، أو التهديد بها، ليست أمرا حتميا، وأنه يمكن الإطاحة بالولايات المتحدة كقوة رئيسية وحيدة في العالم، وبناء نظام عالمي جديد لإعادة ترتيب ميزان القوى العالمي.

وكان العرض مثالا على كيفية استخدام بكين لذكرى الحرب العالمية الثانية ليس فقط لتشجيع القومية الصينية، ولكن لإظهار القوة على المستوى الدولي.

وأظهر العرض العسكري مدى خطورة الصين وتقدمها العسكري بالنسبة لصانعي القرار في واشنطن، كما يدرك الخبراء العسكريون الأميركيون أن الجيش الصيني يواصل أكبر وأسرع وأشمل عملية تحديث عسكري منذ الحرب العالمية الثانية في كل من المجالين النووي والتقليدي.

من هنا جاء إظهار الصين المتعمد لبعض ما تملكه ترسانتها العسكرية ويمكنه استهداف القوات العسكرية الأميركية في المحيط الهادي، وربما ردع أي قرار مستقبلي لواشنطن بمساعدة تايوان حال قررت الصين ضمها بالقوة.

كما عرض الجيش الصيني عدة صواريخ باليستية عابرة للقارات قادرة على استهداف المدن الأميركية سواء الواقعة على المحيط الهادي أو الأطلسي، وما بينهما.

وما ضاعف من القلق الأميركي ما ذكره رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كين في يونيو/حزيران أمام مجلس الشيوخ من أن “الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية تسعى إلى مستويات غير مسبوقة من التعاون”.

ويشمل التعاون بين خصوم واشنطن المجالات السيبرانية والاقتصادية وحرب المعلومات والعلاقات العسكرية التي تجعل كل خصم أكثر قوة.

خبراء أميركيون أكدوا أن ميزان القوى العسكري يتآكل ضد الولايات المتحدة لصالح خصومها التقليديين (غيتي)

ما العمل؟

ويكرر الرئيس ترامب في كل مناسبة أنه يحترم الرؤساء الروسي والصيني والكوري الشمالي، إلا أنه يتجاهل أن علاقات القوى الكبرى تتخطي شخصنة العلاقات بين رؤسائها مقابل المصالح الإستراتيجية التي تحاول كل دولة الدفاع عنها.

ويُقلق النخبة الأميركية عدم اكتراث ترامب بمصالح بلاده الإستراتيجية طويلة الأجل على حساب المصالح الشخصية الوقتية السريعة.

وفي الوقت الذي يطالب فيه صقور السياسة الدفاعية بضرورة زيادة ميزانية الدفاع والإنفاق على بناء المزيد من الأسلحة والصواريخ والسفن والغواصات، وشراء الذخائر، يرى المعلقون السياسيون ضرورة استثمار واشنطن في تقوية تحالفات أكثر قوة سواء في شرق آسيا مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، أو في أوروبا من خلال حلف الناتو.

بيد أن ما قام به الرئيس الأميركي من فرض عقوبات في صورة تعريفات جمركية مرتفعة على الهند بعث برسالة ترامبية قوية مفادها عدم اكتراثه بالمصالح الأميركية العليا.

وآمنت النخبة الأميركية أن الهند تُعد قوة كبرى وشريكا مهما للولايات المتحدة يسمح ازدهارها وتحالفها مع واشنطن بمنع الهيمنة الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

وقالت المعلقة بصحيفة وول ستريت جورنال، كيت باشيلدر أوديل، إن عرض بكين العسكري وهوية الحاضرين فيه تترك واشنطن أمام نقطتين هامتين: أولهما ماذا نحن فاعلون أمام محور الخصوم الذي أعيدت إليه الحياة.

وأضافت أنها تعتقد أن اختيار الذكرى السنوية للحرب العالمية الثانية لم يكن من قبيل الصدفة وهو شهادة على كيفية عمل هذه الدول معا لرواية قصة مختلفة عن العالم منذ عام 1945، ولتقليل الدور القيادي للولايات المتحدة في إنهاء الحرب وبناء عالم سلمي إلى حد كبير عقب ذلك.

وثانيهما أن ميزان القوى العسكري يتآكل ضد الولايات المتحدة حيث أمضت الصين السنوات العشرين الماضية فقط في بناء عسكري شرس وسريع، والصين تبني ما هو أبعد بكثير مما تحتاجه لابتلاع تايوان، وهي تبني قوتها العسكرية مع وضع الولايات المتحدة كعدو لها، فماذا نفعل نحن لمواجهة ذلك التحدي؟

شاركها.