تعكس مدينة أكجوجت، عاصمة ولاية إينشيري شمال غرب موريتانيا، تناقضا صارخا بين غناها بالثروات المعدنية النادرة، مثل الذهب والنحاس والمنغنيز، وبين الواقع المعيشي الصعب الذي يعيشه سكانها.

تقع المدينة على بعد نحو 250 كيلومترا من العاصمة نواكشوط، وتعد من أبرز المدن المنجمية في موريتانيا، نظرا لما تحتويه من مناجم إستراتيجية كمنجم تازيازت ومنجم قلب أم قرين.

ولكن رغم موقعها الإستراتيجي وكونها من أهم الحواضر المنجمية في موريتانيا، إلا أن المدينة تعيش أوضاعا معيشية صعبة، وتُصارع منذ سنوات أزمة مياه خانقة باتت تؤثر على تفاصيل الحياة اليومية لسكانها البالغ عددهم 12 ألفا حسب المندوبية الوطنية للتعداد السكاني.

ويعيش أغلب سكان المدينة في أحياء تفتقر لأبسط مقومات الحياة، في الوقت الذي تُستخرج فيه مئات آلاف الأوقيات من الذهب ويُصدّر آلاف الأطنان من النحاس والمنغنيت إلى خارج البلاد.

ورغم تعاقب البرامج الحكومية، فإن الحلول لا تزال جزئية، في حين تتصاعد شكاوى المواطنين من الغبن والتهميش.

مدينة أكجوجت (الجزيرة)

الثروة التي لا تُذهب الظمأ

تبدو المدينة مثلا واضحا للتباين بين الواقع الاقتصادي الغني والحرمان الذي يعانيه السكان، ويشكل هذا التناقض مصدر قلق دائم للقلق للسكان، الذين يرون استنزاف موارد مدينتهم من دون أن تحصل على الحد الأدنى من البنى الأساسية، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على حياتهم.

ويفاقم أزمة المياه اعتماد المدينة شبه الكامل على شركة نحاس موريتانيا “إم سي إم” (MCM) لتوفير ماء الشرب، وهذا يجعل المواطنين تحت رحمة تقارير الشركة وسياستها الداخلية.

وتوفر شركة نحاس موريتانيا أقل من ثلث احتياجات السكان من المياه، مما يخلق فجوة كبيرة بين الطلب والعرض، ويؤدي هذا إلى أزمات متكررة في التوزيع، وإلى شكاوى لا تنتهي من السكان، في وقت تُستخدم فيه كميات ضخمة من المياه في معالجة المعادن دون رقابة حقيقية على الأثر البيئي أو الاجتماعي لهذا الاستغلال.

كما تشمل الأزمة المائية جودة المياه أيضا، حيث يشكو السكان من تلوثها أحيانا، وهذا يزيد من معاناتهم الصحية ويضطرهم للبحث عن مصادر بديلة، كشراء المياه من الصهاريج المتنقلة رغم ارتفاع أسعارها.

Akjoujt, Mauritania - September 8, 2016: artisanal miners looking for gold nuggets with metal detectors in the Mauritanian desert. 2016 was the start of a gold rush frenzy in Mauritania.
عمال مناجم يبحثون عن قطع ذهبية باستخدام أجهزة كشف المعادن (شترستوك- أرشيف)

أصل المشكلة

ترتبط أزمة المياه ارتباطا وثيقا بأنشطة التعدين، حيث تحتكر شركة “إم سي إم” الموارد المائية وتوجهها بشكل رئيسي لمعالجة المعادن، من دون أن تضع في اعتبارها الحاجة الإنسانية للمدينة.

كما تؤدي هذه الأنشطة إلى تلوث بعض مصادر المياه، وهذا يهدد الصحة العامة ويزيد من مخاطر الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة.

ويتطلب حل أزمة المياه في أكجوجت تدخلًا عاجلًا من الحكومة والجهات المعنية لضمان توفير مياه نظيفة وبكميات كافية لجميع السكان، بالإضافة إلى فرض رقابة صارمة على استخدام الموارد المائية من قبل الشركات التعدينية، مع وضع خطط تطويرية لتحسين البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.

وخلال جولة ميدانية داخل المدينة، عبّر كثير من السكان عن امتعاضهم من تفاقم أزمة المياه التي وصفوها بـ”غير المبررة” في ظل وجود شركات كبرى تستهلك الموارد المائية بكثافة.

وأفاد عدد منهم بأن الوصول إلى الماء بات مهمة شاقة تتطلب وقتا وجهدا وميزانية لا يقدر عليها أغلبهم.

وفي حديث للجزيرة نت قال المختار السالم محمد أبو بكر العمدة المساعد لبلدية أكجوجت إن حاجيات المدينة اليومية من المياه تتجاوز 3 ملايين ونصف المليون لتر، في حين لا يتوفر منها سوى ما يقارب 1.2 مليون لتر، وهي كمية لا تفي حتى بالحد الأدنى من الطلب.

وأكد أن العجز الحاصل يدفع بالسكان إلى اللجوء إلى صهاريج متنقلة تشحن المياه من مناطق بعيدة، ما يُثقل كاهل الأسر محدودة الدخل.

وفي حي “ماتل”، تحدث لنا محمد الأمين، الذي يعمل بائع ملابس مستعملة، عن اضطرار عائلته لإنفاق ما يزيد على 180 أوقية يوميا فقط لتأمين مياه الشرب (حوالي 4 دولارات ونصف).

ويشكو المواطنون من غياب التنسيق بين الجهات المعنية، ويرون أن السلطات لم تبذل ما يكفي للضغط على الشركات العاملة في المنطقة لتسهم في إيجاد حلول مستدامة للأزمة. كما عبّر بعضهم عن مخاوف من تلوث المياه الجوفية بفعل الأنشطة المعدنية، خصوصا أن المدينة لا تخضع لمراقبة بيئية صارمة.

الإنتاج المعدني في ولاية إينشيري

رغم هذه الأوضاع، تُعرف أكجوجت بأنها من أبرز مراكز التعدين في موريتانيا. وتشير التقارير الرسمية، المعروضة على موقع شركة كينروس، إلى أن منجم تازيازت، التابع لها، أنتج خلال الربع الأول من هذا العام (2025) نحو 138 ألف أوقية ذهب، وهو مؤشر على استقرار عمليات الإنتاج.

وكانت الولاية سجلت في العام السابق 2024، إنتاجا إجماليا قدره 653 ألفا و872 أوقية من الذهب، كانت 95% منها من إنتاج شركة تازيازت (622 ألفا و394 أوقية ذهب)، ما يثبت سيطرتها على قطاع الذهب.

وفي السياق نفسه، ساهمت شركة نحاس موريتانيا في إنتاج 31 ألفا و478 أوقية من الذهب، رغم أن نشاطها الرئيسي يتركز على استخراج النحاس.

وقد بلغ إنتاجها من النحاس خلال نفس العام (2024) حوالي 17 ألفا و792 طنا، إضافة إلى 558 ألفا و657 طنا من المنغنيت، وهذا يعكس الإمكانيات الجيولوجية الضخمة والتوسع المتزايد في عمليات الاستخراج.

وتُظهر هذه الأرقام مدى قوة القطاع المعدني في الولاية، حيث أصبحت إينشيري مركزا رئيسيا لتوليد العملة الصعبة للدولة من خلال صادرات الذهب والمعادن الأخرى.

ومع ذلك، فإن العائد الاجتماعي المحلي لهذا الإنتاج لا يزال محل تساؤل واسع، خصوصا في ظل غياب مبادرات تنموية ملموسة تمول من هذه العائدات.

وبالرغم من أن هذه الشركات تُدر أرباحا ضخمة وتستفيد من الامتيازات الجمركية والضريبية، إلا أن مردودها على السكان شبه منعدم، فالقوانين التي تنظم عقود التعدين غالبا ما تُمنح بشروط غير واضحة للرأي العام، مما يثير الشكوك حول حجم ما تستفيد منه الدولة، خاصة في ظل ضعف الشفافية وضعف أجهزة الرقابة المالية والبيئية.

منجم قلب أم قرين ودوره الاقتصادي

يُعد منجم “قلب أم قرين” (Guelb Moghrein)، التابع لشركة “إم سي إم”، من أضخم المناجم في موريتانيا وقد بدأ استغلاله منذ سبعينيات القرن الماضي، ويبلغ متوسط إنتاجه السنوي نحو 30 ألف طن من النحاس، بالإضافة إلى قرابة ألفي كيلوغرام من الذهب المصاحب.

ويُعتبر هذا المنجم من أعمدة الاقتصاد المحلي في مدينة أكجوجت، إذ يمثل من الناحية النظرية رافعة تنموية مهمة كان من المفترض أن تنعكس آثارها الإيجابية على سكان المدينة.

وقد استثمرت الشركة في تطوير هذا المنجم بهدف تعزيز الإنتاج وتحسين الجوانب البيئية والتقنية، غير أن تأثير هذه العائدات لم يظهر جليا في تحسين واقع المدينة، كما أن الأثر البيئي الناتج عن أنشطة المنجم يثير قلقا متزايدا، فالنفايات المعدنية والمواد الكيميائية المستخدمة في المعالجة لا تخضع للرقابة البيئية الكافية.

وتشير شهادات محلية إلى ظهور حالات من الأمراض الجلدية والتنفسية في أوساط المواطنين القاطنين بالقرب من مناطق التفريغ.

Akjoujt, Mauritania - September 21, 2020: artisanal miners in the Inchiri region pulling up ore from the bottom of a pit.
عمال في أحد مناجم منطقة إينشيري (شترستوك) (شترستوك)

لمن تستخرج هذه الثروات؟

يتساءل السكان باستمرار عن مصير الأموال التي تجنى من الثروات الطبيعية في مدينتهم، في ظل غياب رؤية واضحة من قبل السلطات لربط النشاط المعدني بالتنمية المحلية.

ويطالب الناشطون بضرورة اعتماد نموذج تنموي جديد يربط بين استخراج الثروات وتوزيعها العادل، وذلك من خلال إنشاء صندوق تنمية خاص بمدينة أكجوجت يمول بنسبة محددة من أرباح الشركات العاملة في المنطقة.

كما يدعو الفاعلون المحليون إلى ضرورة فرض التزامات اجتماعية صريحة على الشركات العاملة، تُدرج ضمن عقودها مع الحكومة، وتُشرف على تنفيذها لجنة رقابة مستقلة تتكون من ممثلين عن الدولة والمجتمع المدني وسكان المدينة.

وفي مظاهرة احتجاجية نظمت قبل أيام، طالب النائب البرلماني عن المدينة، سيد أحمد محمد الحسن بإعادة النظر في عقود الاستغلال المبرمة مع الشركات المعدنية، ودعا إلى فرض التزامات اجتماعية واضحة على الشركات، تشمل توفير المياه والكهرباء وتحسين البنية التحتية.

الفقر والبطالة

رغم وجود أنشطة معدنية مهمة في المنطقة، إلا أن الغالبية العظمى من شباب المدينة لم تستفد من هذه الفرص بسبب غياب التكوين المهني والتأهيل اللازم للعمل في هذا القطاع، بالإضافة إلى ضعف السياسات المحلية التي لا تشجع على تشغيل الكوادر المحلية بشكل جدي.

ويعاني السكان من تفشي الفقر وارتفاع معدلات البطالة بشكل مقلق، خصوصا أن الأنشطة الاقتصادية في قطاع التعدين أصبحت حكرا على العمال الأجانب أو المؤقتين القادمين من خارج المدينة، مما يترك السكان المحليين في مواجهة البطالة المزمنة.

وعلى الرغم من ضخامة عائدات التعدين، فإن القطاع الخاص في المدينة شبه غائب، والأسواق التجارية متواضعة، إذ لا يوجد سوى سوق واحد متهالك في المدينة، يعاني من الإهمال ومحدودية النشاط.

ويبرز واقع أكجوجت كمثال واضح على المخاطر الكبيرة التي تنتج عن الغبن الاجتماعي والتهميش في مناطق غنية بالموارد الطبيعية، حيث يشعر السكان بامتعاض وإحساس عميق بالظلم جراء استمرار استغلال ثرواتهم المعدنية دون أن تترجم هذه الثروات إلى تنمية حقيقية أو تحسين ظروف حياتهم.

وغالبا ما يتولد هذا الشعور من الفقر المتفاقم، وضعف الخدمات الأساسية، وانعدام العدالة في توزيع الثروات.

وقد عبر بعض أعضاء الحزب الحاكم عن استيائهم من الوضع الحالي، إذ باتوا ينضمون إلى صف الغاضبين بسبب عقود استغلال الثروات التي تم توقيعها مع شركات أجنبية، والتي لا توفر عوائد ملموسة لسكان المدينة.

دولة داخل الدولة

تلعب الشركات المعدنية، وخاصة شركة معادن إينشيري، دورا مركزيا في الاقتصاد المحلي، حيث تملك وتدير منجم قلب أم قرين. ومع ذلك، يرى السكان أن هذه الشركة تتحكم بشكل كبير في الموارد الطبيعية وفي حياة المدينة، حيث تُعتبر بمثابة “دولة داخل الدولة” بسبب احتكارها للمياه وسيطرتها على عائدات التعدين، مع غياب رقابة فعالة تحاسبها على مساهمتها في التنمية المحلية.

وتشير تقارير محلية إلى أن أنشطة الشركة تسببت في عدة حوادث تلوث بيئي، منها تسرب المواد الكيميائية السامة من المنجم، ما أدى إلى تدهور صحة السكان وموت بعض المواشي.

ويرى السكان أن هذه المشاكل البيئية لم تحظَ بالاهتمام اللازم من قبل السلطات والشركة، حيث غاب العقاب الرادع أو الإجراءات التصحيحية السريعة.

شاركها.