يبدو أن التقارير التي تتنبأ بنهاية الحزب الديمقراطي الأميركي مبالغ فيها إلى حد كبير، حيث أثبت فوز السياسي الشاب زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عاماً، عكس ذلك تماماً، ففي الانتخابات التي جرت أخيراً، نجح ممداني، المعروف بتواضعه ودماثة خلقه، في كسب ثقة سكان مدينة نيويورك، مقدماً لهم رؤية جديدة تقوم على العدالة الاجتماعية والقدرة على تحمل تكاليف المعيشة، ليحقق فوزاً واسعاً في سباق عمدة أكبر مدينة أميركية.

وبهذا الانتصار، يكون ممداني قد وجه ضربة موجعة لأحد أكثر القوى نفوذاً في السياسة الأميركية، وهي «سلطة أصحاب المليارات»، وفقاً لما يُعرف بقرار «سيتيزن يونايتد» عام 2010 الذي فتح الباب أمام تدفق أموال هائلة في الحملات الانتخابية الأميركية، إذ تفوق ممداني على خصمه المدعوم من كبار الأثرياء بفارق تسع نقاط كاملة، مبرهناً على أن المال ليس دائماً العامل الحاسم في صناديق الاقتراع.

كان خصمه في الانتخابات أندرو كومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك، الذي خاض السباق كمرشح مستقل بعدما هزمه ممداني سابقاً في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي.

تمويل هائل

ورغم ضخ أصحاب المليارات تمويلاً هائلاً في حملته، خسر كومو مجدداً أمام الشاب الاشتراكي الصاعد، أما المرشح الجمهوري كورتيس سليوا، المعروف بغرابة أطواره، فلم يشكل منافسة حقيقية في هذا السباق.

وقد انهمرت التبرعات على حملة كومو من نخبة الأثرياء الذين ضاقوا ذرعاً بسياسات ممداني الاشتراكية ومقترحاته الجريئة، مثل توسيع خدمات الرعاية الاجتماعية ورعاية الأطفال الشاملة، وتصريحاته التي تؤكد أنه «لا ينبغي وجود مليارديرات»، فقد قدّم المستثمر والملياردير بيل أكمان، أحد أبرز مؤيدي الرئيس دونالد ترامب، نحو 1.75 مليون دولار لدعم كومو، بينما تبرع أحد رؤساء بلدية نيويورك السابقين بمبلغ ضخم بلغ 8.3 ملايين دولار، كما مول قطب صناعة التجميل من عائلة لودر منظمات مؤيدة لكومو ومعادية لممداني بمبلغ 2.6 مليون دولار، فيما أسهمت عائلة تيش الثرية بمبلغ 1.2 مليون دولار لمحاولة عرقلة تقدم الاشتراكي الشاب، ومع ذلك أثبتت النتائج أن تحالف المال والنفوذ لم يعد كفيلاً بتحديد مصير الانتخابات.

صفعة قوية

ولم يكن فوز ممداني مجرد انتصار شخصي، بل صفعة قوية للاستراتيجيات التقليدية داخل الحزب الديمقراطي، الذي يعاني منذ هزيمته أمام ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2024 حالة من الارتباك وفقدان البوصلة، فقد بدت القيادة الديمقراطية في الكونغرس غارقة في حالة من العجز والتبرير، بينما انشغل بعض رموز إدارة الرئيس جو بايدن السابقة بنشر مذكرات يتبادلون فيها اللوم دون تحمل أي مسؤولية حقيقية. وفي خضم هذا التراجع، انخدع عدد من المستشارين السياسيين بما يسمّى «الشعبوية المعتدلة»، وهي نظرية يروج لها منظرون، مثل ديفيد شور ومات يغلسياس، تدعو إلى تعديل البرامج الديمقراطية لتتماشى مع «المتوسط» للرأي العام، أي عملياً الميل نحو اليمين والتخلي عن الفئات الأضعف.

وقد أدى هذا التوجه إلى نشوء شبكة من مراكز الأبحاث والاستشارات ذات الطابع الوسطي أو اليميني المعتدل، هدفها صياغة خطاب يرضي الممولين الأثرياء أكثر من تمثيل القاعدة الشعبية، وهكذا أصبح الحزب الديمقراطي، في نظر كثيرين حزباً فاتراً بلا مبادئ واضحة، يخشى المواجهة لأنه لم يعد يؤمن بشيء.

رسالة صادقة

في المقابل، رفض ممداني هذا النهج رفضاً قاطعاً، فلم يسع إلى التنازل عن مواقفه أو تلميع صورته بما لا يعكس قناعاته، بل خاض حملته برسالة صادقة ركزت على مشكلة التفاوت الاقتصادي في نيويورك، وإصراره على أن المدينة يمكن أن تكون مكاناً يعيش فيه العمال بكرامة.

وعندما واجه هجمات عنصرية من معسكر كومو تصوّره كـ«مسلم أوغندي يحتفل بالإرهاب»، لم يردّ بانفعال، بل واصل حملته بهدوء وثقة.

وعندما حاول خصومه بث الخوف من اشتراكيته، ذكرهم بميراث السياسي الأميركي الاشتراكي فيتو ماركانتونيو، الذي مثّل حي هارلم في الكونغرس لسبع فترات، وقال ممداني حينها: «علينا أن ننظر إلى ماضينا لنرى كيف يمكن للاشتراكية أن تصنع لنا مستقبلاً مشرقاً». وقد وجد هذا الخطاب صدى واسعاً بين سكان نيويورك، الذين منحوه تأييداً كاسحاً في انتخابات غير مسبوقة.

قلق واستهجان

ورغم هذا الدعم الشعبي، لم تحظ حملة ممداني بتأييد فعلي من قيادة الحزب الديمقراطي، فقد امتنع زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب حكيم جيفريس عن دعم واضح له، رغم أن منطقته الانتخابية صوتت لممداني بأغلبية كبيرة.

وكذلك فعل تشاك شومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، الذي رفض إعلان موقفه أو الإفصاح عن صوته، ما أثار تكهنات بأنه ربما صوّت لصالح كومو.

أما الرئيس السابق باراك أوباما فقد ورد أنه اتصل بممداني لتهنئته والتعبير عن إعجابه بحملته، في حين تراوح موقف الديمقراطيين الوطنيين بين القلق والاستهجان.

ويبدو أن هذا التردد لا ينبع فقط من خلاف سياسي، بل أيضاً من خشية داخلية أعمق، فالحزب الذي فشل في استعادة ثقة الناخبين، يرى في نجاح ممداني تحدياً للنظام القائم، حيث استطاع أن يفوز بخطاب صادق ومبدئي في وقت أصبحت فيه السياسة الأميركية أسيرة المال والاستطلاعات والمصالح.

وربما أكثر ما يخشاه قادة الحزب الآن ليس أن يفشل ممداني في إدارة نيويورك، بل أن ينجح، لأن نجاحه سيشكل دليلاً عملياً على أن نموذج «الاشتراكية التقدمية» يمكن أن ينجح في أكبر مدينة أميركية.

لقد بدأ ممداني فصلاً جديداً في السياسة الأميركية، حيث لم يكن فوزه مجرد حدث انتخابي، بل إشارة إلى أن روح الحزب الديمقراطي لم تمت بعد، وأن التغيير الحقيقي قد يأتي من خارج دوائر السلطة التقليدية، على يد شاب يؤمن بالناس أكثر مما يؤمن بالنفوذ والمال. عن «الغارديان»

. ممداني نجح في كسب ثقة سكان نيويورك، مقدماً لهم رؤية جديدة تقوم على العدالة الاجتماعية والقدرة على تحمل تكاليف المعيشة.

شاركها.
Exit mobile version