يلوح خريف هذا العام في فرنسا أكثر سخونة من المعتاد في ظل حالة ترقب شديدة لما قد يحصل في العاشر من الشهر الجاري بعد دعوات التعبئة التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي على مدى أسابيع، من أجل الإغلاق الكامل وشل البلاد.
ولا تستبعد هذه الدعوات اللجوء إلى الإضراب العام والاعتصام المدني احتجاجا على خطط رئيس الوزراء فرانسوا بايرو لخفض الإنفاق.
ومن الناحية السياسية، قد تتجه فرنسا إلى وضع أكثر تعقيدا مع تلويح المعارضة اليسارية بالإطاحة بالحكومة في جلسة التصويت على الثقة المقررة غدا الاثنين، والتي دعا إليها بايرو، وبالتالي تعليق مشروع موازنة 2026.
من “السترات الصفراء” إلى “الواب التفاعلي”
بالعودة إلى نقطة البداية، فإن حركة التعبئة التي يُرمز لها اختصارا بالفرنسية بحركة “2.0” الاحتجاجية، أي حركات التعبئة الرقمية عبر المنصات التفاعلية والسوشيال ميديا، ومجموعات النقاش، كانت قد انطلقت منذ شهر مايو/أيار الماضي، لكنها اكتسبت زخما أوسع إبان طرح فرانسوا بايرو لخطط التقشف في شهر يوليو/تموز، ومن ثم دعوة حزب “فرنسا الأبية” اليساري المواطنين للنزول إلى الشوارع.
مع ذلك، لا تبدو هذه الأجواء المشحونة جديدة على شوارع فرنسا، حيث أعادت عمليات التعبئة إلى الأذهان حركة “السترات الصفراء” التي أقضت مضجع الحكومة على مدى أسابيع طويلة قبل 7 سنوات.
ولا يرى جيروم فوركيه، مدير قسم استطلاعات الرأي في معهد “إيفوب”، في تحليله لصحيفة لوبوان، فوارق تُذكر في العوامل المؤججة لموجة الغضب الحالية، بالنظر إلى تنامي الشعور ذاته بالتهميش لدى الطبقة الوسطى، وصعوبة المعيشة للفئات الشعبية، والاستياء الضريبي الواسع.
وقال إن الأمر اليوم أشبه بسكب المزيد من الوقود عبر الخطة التقشفية المعلنة من الحكومة.
وحين تؤكد التعبئة الرقمية مرة أخرى، على غرار حركة “السترات الصفراء” قبل سنوات، القدرة على تحريك الشارع خارج الدوائر السياسية والنقابية، فإن التحركات عبر “الويب التفاعلي” تتجه لاتخاذ مسار تنظيمي وتعبوي مختلف، مثل الاختيار عن قصد ليوم العاشر من سبتمبر/أيلول الذي يوافق يوم عمل (الأربعاء) وليس يوم عطلة بنهاية الأسبوع كما كان سائدا مع الاحتجاجات الأسبوعية لـ”السترات الصفراء”.
ووفق تقارير في الصحافة الفرنسية، فقد بدأت التعبئة عبر تطبيق “تليغرام” لتتوسع نحو باقي منصات التواصل الاجتماعي ومجموعات افتراضية مفتوحة للنقاش.
وتراوحت الدعوات المنطلقة من تغريدات آلاف المتصفحين، بحسب دراسة أجرتها شركة “فيزيبرون” المتخصصة في المراقبة الرقمية، بين دعوات كلاسيكية مثل “الإضراب” و”الاعتصام المدني”، إلى أخرى غير تقليدية مثل حث المحتجين على الامتناع عن التسوق واستخدام البطاقات المصرفية بدءا من العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري والعدول عن الذهاب الى المساحات التجارية.
لكن في نهاية المطاف برزت منصة “لنغضب” كواجهة للتعبئة وكوسيط إعلامي ورقمي رئيسي للحملة التي تحمل الاسم ذاته.
وقد حددت الحملة على موقعها بشبكة الإنترنت مبررات تحركاتها في 5 نقاط انطلاقا من برنامج حكومة بايرو، وهي:
- سنة بيضاء من دون استثمارات في الرواتب وجرايات التقاعد والخدمات العامة.
- شطب 3 آلاف وظيفة.
- موظف من بين 3 لم يتم تعويضه.
- خفض 5 مليارات أورو من نفقات قطاع الصحة.
- إلغاء عطلتين رسميتين.
- مضاعفة مدة الانتظار إلى 6 أيام لاستلام تحويلات التأمين الصحي عند العطلات المرضية.
- تجميد أي زيادات في المنح والمعاشات التقاعدية.
📢 Lettre ouverte à nos pairs syndiqués
Le 10 septembre, nous serons là, quoi qu’il en coûte, pour un avenir meilleur.
L’espoir fait vivre, certes… mais c’est l’action qui change les choses.📢 RELAYEZ, PARTAGEZ — VOUS AUSSI, DEVENEZ ACTEUR.
✊ #IndignonsNous #10Septembre pic.twitter.com/kDeVmYgqsG
— Indignons Nous ! – 10 septembre 2025 (@IndignonsN) September 5, 2025
الغضب ينتشر مثل الفقاعة
لا تقتصر التعبئة على المتصفحين والمحتجين من المواطنين عبر “الويب التفاعلي” ولكن الغضب ينتشر أيضا مثل الفقاعات بين النقابات والأحزاب، ضمن خطط قد تتجاوز الأهداف الاجتماعية الى الإطاحة بميزانية 2026 والحكومة الهشة معا.
وعلى المستوى النقابي، تشمل دعوات التحرك “اتحاد المناجم والطاقة” التابع للاتحاد العام للعمال الذي لوح بالإضراب منذ بداية الشهر الجاري، إلى جانب نقابتي عمال قطاعي الكيميائيات وتجارة التجزئة.
واتخذت نقابة “القوة العمالية”، الخطوة ذاتها اعتراضا على التدابير المالية، كما تنظر في شن إضراب في مستشفيات باريس.
ووجه كذلك اتحاد عمال السكك الحديدية نداء الى منخرطيه للتعبئة بمناسبة تحرك يوم 10 سبتمبر/أيلول.
من جانبه، يخطط اتحاد سيارات الأجرة لشل حركة المرور في المطارات ومحطات القطارات وفي الحدود وفي محطات توزيع الوقود، وحتى شارع الشانزليزيه وسط باريس، احتجاجا على الأسعار الجديدة لقطاع النقل الطبي.
أما على المستوى الحزبي، فقد أعلنت أغلب أطياف اليسار دعمها لتحركات العاشر من سبتمبر/أيلول ودعوات الإغلاق الكامل من المواطنين، ضمن خطة أوسع تبدأ بإسقاط الحكومة.
لكن الدعم العلني جاء أكثر من حزب “فرنسا الأبية” حيث يرى مانويل بومبارد، منسق الحزب على المستوى الوطني، أن الإطاحة بحكومة بايرو في جلسة التصويت على الثقة (المقررة يوم 8 سبتمبر/أيلول) تُعد “أول انتصار” من شأنه أن يسمح “بطي صفحة الماكرونية بشكل نهائي”.
وبينما طالب أمين عام “الحزب الشيوعي” فابيان روسل صراحة بحكومة جديدة، بدا موقف الاشتراكيين أكثر حذرا رغم إقرار الأمين العام أوليفيي فور، بعدم التصويت لحكومة بايرو.
وبالنسبة للمتحدثة باسم “حزب الخضر” في الجمعية الوطنية، ليا بالاج الماريكي، فإن العاشر من سبتمبر/أيلول “ربما يكون نقطة انطلاق لتعبئة أوسع نطاقا بدأت بقانون دوبلوم”، في إشارة إلى العريضة المضادة لمشروع هذا القانون، الذي يهدف إلى إعادة استخدام مبيد حشري محظور، والتي جمعت أكثر من مليوني توقيع في بداية الصيف.
وعلى الجانب الآخر كان موقف اليمين المتطرف من التعبئة متأرجحا، حيث أوضحت النائبة عن حزب التجمع الوطني، إدويج دياز، على إذاعة “فرانس إنتر” أن حزبها “من حيث المبدأ لا يحرض على المظاهرات لكنه متفهم لمعاناة الشعب الفرنسي”.
كما أعلنت مارين لوبان، زعيمة كتلة الحزب في الجمعية الوطنية، أن حزبها، الذي يضم 123 نائبا، سيصوت بالتأكيد ضد منح الثقة لحكومة بايرو.
فرانسوا بايرو في “مهمة مستحيلة”
تتمثل خطة بايرو لاحتواء الدين المطرد للبلاد في توفير 44 مليار يورو من الإنفاق، في مسعى للحد من عجز الموازنة الذي وصل إلى 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، وهو ما يتجاوز بكثير السقف المحدد من الاتحاد الأوروبي البالغ 3%.
وتشمل الخطة، وفق مقترحات رئيس الوزراء، إلغاء عطلتين رسميتين، كما تتضمن أيضا نقاشات غير معلنة تطال مزايا اجتماعية، من بينها الحديث عن “سنة بيضاء” خالية من الزيادات في التحويلات الاجتماعية، في خطوة من شأنها أن توفر وحدها حوالي 5 مليارات يورو.
ويحاول بايرو، الذي رفع شعار “المسؤولية أو الفوضى”، وفي ظل وضع سياسي متوتر وافتقاد البرلمان إلى أغلبية واضحة، الاعتماد على خصومه من اليسار واليمين، أو على الأقل امتناعهم عن التصويت، من أجل تمرير مشروع قانون الميزانية، وهو ما يبرر سعيه إلى الحصول على تصويت بالثقة قبل المناقشة المقررة أن تبدأ في أكتوبر/تشرين الأول، لكن خططه تبدو أشبه بـ”مهمة مستحيلة”.
ورغم تحذيرات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من مخاطر تعطيل التصديق على ميزانية عام 2026، وما قد يترتب على ذلك من عواقب تمس الأمن القومي، في ظل التمويلات الإضافية الموجهة للدفاع والأمن والمقدرة بـ3.5 مليارات يورو، فإنه ليس متوقعا أن يساعد ذلك الحكومة على النجاة في تصويت الثقة.
وسيكون من الصعب حسابيا تأمين التصويت الكافي، فمن خلال جمع أصوات التجمع الوطني، واتحاد اليمين، والحزب الشيوعي، والخضر، وحزب “فرنسا الأبية”، والحزب الاشتراكي، فإنه من المتوقع أن يصوت 330 نائبا ضد بقاء فرانسوا بايرو في منصبه، وهو رقم كاف لإسقاط الحكومة.
وقد يواجه الرئيس ماكرون، الذي تعهد بالبقاء في منصبه حتى نهاية ولايته عام 2027، مهمة معقدة تتمثل في تعيين رئيس وزراء جديد للمرة الثالثة في غضون عام واحد، والخامسة منذ انتخابه عام 2022.
ومن شأن هذا الوضع المتأزم أن يدفع إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة مرة أخرى، وهو أمر لم يستبعده ماكرون، في وقت لا تزال نتائج الانتخابات التي دعا إليها في 2024 تغذي الفوضى في البرلمان الحالي، الذي انقسم بين 3 كتل متباينة سياسيا وتفتقد لأغلبية كافية للحكم بمفردها.
مع ذلك، لا تشير أحدث نتائج استطلاعات الرأي في فرنسا إلى تغير مرتقب في نيات التصويت، مع احتمال تصدر حزب “التجمع الوطني” اليميني للدورة الأولى إن أجريت انتخابات مبكرة.