عقب إقرارالكابينت الإسرائيلي خطة التصعيد الجديدة في غزة التي اطلق عليها “عربات غدعون”، والتي تهدف -عبر التجويع الممنهج، والمجازر المكثفة، ومنع دخول الغذاء والدواء- لإعادة تقسيم قطاع غزة إلى معازل صغيرة تدفع الفلسطينيين نحو منطقة أُطلق عليها “غزة الصغرى”، تمهيدًا لتهجيرهم القسري خارج القطاع.
وبينما تصف افتتاحية هآرتس هذه الخطة بأنها أداة للبقاء السياسي لحكومة منفصلة حولت الحرب إلى وصفة للحفاظ على تحالف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يواصل الانجراف مع متعصبي “عوتسما يهوديت” (العظمة اليهودية) والصهيونية الدينية نحو أوهام التهجير والاستيطان والحكم العسكري، يرى محللون أنها امتداد لنزعة توراتية دموية تحكم العقلية الإستراتيجية للحكومة والجيش الإسرائيلي.
لكن ما خطة “عربات غدعون”؟ وكيف تسعى إسرائيل لتنفيذها وسط تصاعد الكارثة الإنسانية في غزة؟
تفاصيل الخطة
كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، في تقرير موسع للمحلل العسكري رون بن يشاي، أن الجيش الإسرائيلي بدأ في تنفيذ خطة عسكرية سياسية متكاملة أطلق عليها اسم “عربات غدعون”، تهدف إلى تحقيق حسم عسكري وسياسي في غزة، عبر عملية منظمة من 3 مراحل، مع استخدام 5 روافع ضغط مركبة ضد حركة حماس في محاولة لإرغامها على القبول باتفاق لتبادل الأسرى، وتفكيك بنيتها العسكرية.
ويشير بن يشاي إلى أن الخطة مكونة من 3 مراحل، كالتالي:
المرحلة الأولى
الاستعداد وقد بدأت بالفعل، وتتضمن هذه المرحلة التي بدأت الإعداد اللوجستي والنفسي، وتستمر على الأقل حتى 16 مايو/أيار 2025، موعد انتهاء زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنطقة، وتشمل هذه المرحلة:
إعلان
- الاستعداد لتهجير سكان غزة ودفعهم إلى جنوب قطاع غزة في المنطقة الواقعة بين محوري موراغ وفيلادلفيا.
- إقامة “مراكز لوجستية” بالتعاون مع شركة أميركية، لتوزيع الغذاء والمياه والأدوية على النازحين.
- تدمير الأنفاق التي كانت تصل رفح بخان يونس ومناطق الوسط، لعزل المناطق عن بعضها وقطع خطوط الحركة والتهريب.
المرحلة الثانية
وهي عبارة عن قصف تمهيدي وتهجير السكان، وتُعد هذه المرحلة من الخطة هي الأخطر من الناحية الإنسانية، إذ تشمل:
- قصفًا تمهيديًا مكثفًا من الجو والبر في أنحاء القطاع.
- تهجير السكان نحو المناطق “الآمنة” في رفح من خلال التهديد المباشر أو التوجيه عبر المناشير والرسائل.
- تشغيل “نقاط تصفية أمنية” بإشراف الشاباك والجيش، مهمتها منع تسلل المقاومين إلى المناطق الآمنة.
المرحلة الثالثة
تقوم على الاجتياح التدريجي والتفكيك العسكري، وتبدأ هذه المرحلة بعد الانتهاء من تهجير المدنيين خارج مناطق القتال، ومما تشمل:
- اجتياح تدريجي لمناطق غزة، بدءًا من المناطق التي تم إخلاؤها في الشمال.
- تدمير شامل للبنية التحتية العسكرية لحماس، بما في ذلك المباني التي يُشتبه باستخدامها كمقار، والمدارس التي تحوي أنفاقًا أو مخازن أسلحة.
- التمركز العسكري طويل الأمد في المناطق المحتلة، لمنع عودة حماس إلى التنظيم والسيطرة.
روافع مزعومة للخطة الجديدة
ويرى بن يشاي أن إسرائيل تعتمد لإنجاح خطتها على مجموعة من الأدوات التي تراهن عليها إسرائيل لتحجيم قدرة حركة حماس على مقاومة الهجوم، وفي الوقت ذاته، توفير ضغوط كافية لدفعها للتفاوض حول إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لديها.
وقسم التقرير هذه الروافع إلى 5 روافع رئيسة، كل واحدة منها تسهم في تحقيق هدف عسكري أو سياسي بعينه:
- 1- الاحتلال والسيطرة على الأراضي.
- 2- فصل السكان عن حماس عبر “المصارف” وهي نقاط تفتيش (حلابات).
- 3- منع حماس من الاستيلاء على المساعدات الإنسانية.
- 4- الفصل بين حماس والسكان المدنيين.
- 5- الرافعة المعرفية، وتعني التهديدات التي تواجه حماس وتمثل الجانب الذي يركز على المعلومات الاستخباراتية والضغط النفسي، والضغط على قيادة حماس من خلال فهم ما سيحدث لهم وللسكان خلال مراحل العملية.
إعلان
كما تسعى الخطة إلى خلق واقع جديد يدفع بالسكان نحو ما تزعم إسرائيل إنها هجرة طوعية، سواء إلى سيناء أو عبر البحر، في ظل مفاوضات سرية تجريها إسرائيل مع دول أجنبية لاستيعاب لاجئين فلسطينيين، وفق ما ورد في التقرير.
واعتبر المختص في الشؤون الإسرائيلية نائل عبد الهادي أن تسريب تفاصيل الخطة يأتي ضمن جهود ممارسة الضغط النفسي على حماس لتحصيل مواقف سياسية تفاوضية وفقا للشروط الإسرائيلية، وأن ما نشر من تفاصيل عن آلية المساعدات من قبل إعلام الاحتلال من جهة، وتضخيم من وسائل إعلام إقليمية، كان لإخضاع الفلسطينيين تحت سيف الجوع بالقبول بأي جهة كـ”منقذ”.
الاحتلال والتهجير
وانتشرت عدة تصريحات على لسان كل من نتنياهو ووزير جيشه يسرائيل كاتس وقائد أركان جيش الاحتلال إيال زامير عن بعض تفاصيل “عربات غدعون” لإعادة احتلال قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين.
بَيد أن تصريح وزير المالية والوزير في وزارة الجيش بتسلئيل سموتريتش، يوم الثلاثاء 6 مايو/أيار، كان أكثر تفصيلا ووضوحا، حيث تحدث بشكل واضح لا لبس فيه عن إعادة احتلال طويل الأمد (50 سنة) لقطاع غزة وعن حشر الفلسطينيين لتهجيرهم بالقوة.
وأعتبر سموتريتش في تصريحه -وفقا لما نشرته يديعوت أحرونوت- أن صورة النصر ستكون “عندما يتم تدمير غزة بالكامل، ويتركز مواطنوها جنوب محور موراغ ويبدؤون في المغادرة بأعداد كبيرة إلى دول ثالثة”.
وأضاف أنه في رؤيته فإن “الجيش الإسرائيلي يواصل التطهير وتقليب كل حجر وتدمير البنية التحتية، حينها سيتم تركيز المواطنين الغزيين في الجنوب، ويشعرون باليأس التام، حيث يدركون أنه لا أمل هناك وليس هناك ما يبحثون عنه في غزة، ويتطلعون إلى الانتقال وبدء حياة جديدة في مكان آخر”.
وهذا يضع إسرائيل “في مكان مختلف وتسيطر على المنطقة بأكملها، بما في ذلك هذا المكان الذي سنجلس فيه خلال السنوات الـ50 المقبلة”، على حد قوله.
إعلان
وفي هذا يقول القيادي في حركة حماس محمود مرداوي في تصريح خاص للجزيرة نت: “نرفض بشكل قاطع مخططات الاحتلال لإنشاء مخيمات عزل قسري على غرار “الغيتوهات” النازية، ونؤكد أن شعبنا الفلسطيني بكل مكوناته سيتصدى لهذه المحاولات التي تُعد امتدادا لجريمة الإبادة الجماعية التي تُمارس ضده منذ 19 شهرا تحت مسميات مختلفة ذات طابع توراتي دموي مزوّر، كان آخرها ما يسمى بـ “عربات غدعون”.
ويتفق المختص بالشؤون الإسرائيلية مصطفى إبراهيم ربايعة مع مرداوي بأنها خطة توسعية طموحة يسعى إليها الاحتلال منذ بداية الحرب، مما يشير إلى أنه وبعد 19 شهرا من القتل والتدمير لم ينجح نتنياهو وائتلافه من اليمين المتطرف في الوصول لأهداف الحرب المعلنة بالقضاء على حماس عسكريا وعلى مقدرات حكمها المدني.
ويضيف: أنه بالرغم من الإنجازات التكتيكية التي وصل إليها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، إلا أنها وفقا للمحللين تعتبر لا شي أمام طموحات نتنياهو وحلفائه.
حرب توراتية
وصف الكاتب سابر بلوكير في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت خطة “عربات غدعون” بأنها “فاشلة”، مشيرًا إلى إدراك الجيش الإسرائيلي أن سياسة العقاب الجماعي باستخدام التجويع التدريجي لم تؤتِ ثمارها، حيث أوصى بالتوقف عن استخدامها. وأن النزعة المتطرفة لدى الوزراء المسيحانيين ونتنياهو داخل الائتلاف أدت إلى استمرار المعاناة بدل تقليصها.
من ناحية أخرى يرى الكاتب والمحلل وسام عفيفة عملية “عربات غدعون” ليست مجرد عملية عسكرية جديدة، وإنما انعكاس لنزعة توراتية متجذرة تحكم عقل القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
ويعتبر أن ما نشهده اليوم يمثل نسخة موسعة وأكثر شراسة من “خطة الجنرالات” السابقة، لكنها تنحو باتجاه الإبادة لا الإدارة، فالفكرة ليست فقط تطهيرًا عسكريًا بل هندسة ديموغرافية مكتملة الأركان عبر تجميعهم وحشرهم جنوب محور موراغ في منطقة معزولة ومراقبة، وتجريف البنى التحتية وتدمير أي قدرة للحياة، إضافة لمحاولة خلق بدائل أمنية هجينة (مرتزقة، أجهزة أمنية) لتكون ستارا للسيطرة المباشرة.
إعلان
من جهة أخرى، يرى ربايعة أن عربات غدعون ليست مجرد امتداد لـ”خطة الجنرالات”، بل مقاربة أمنية تسعى لتقليل التكلفة على الجيش الإسرائيلي مقابل إلحاق أكبر ضرر ممكن بالفلسطينيين، ويشير إلى أن الاحتلال يعتمد أسلحة كالتجويع بشكل غير مسبوق، إلى جانب التطهير المكاني الشامل كما حدث في رفح، وسط حديث عن امتداد هذه الإستراتيجية إلى مناطق أخرى في القطاع.
ويضيف ربايعة “حتى المقاربة الإنسانية التي يتم الترويج لها كغطاء للعملية ليست سوى محاولة لحرف الأنظار عن عمليات التطهير العرقي المستمرة، حيث تسعى هذه الخطة إلى إعادة هندسة للتموضع السكاني من خلال دفع الفلسطينيين جنوبًا تحت ستار المساعدات والطعام”.
تجريب المجرب
لم تكن الآليات التنفيذية المعلنة في “عربات غدعون” وليدة اللحظة، بل تم تنفيذها بقسوة شديدة من قبل الاحتلال في قطاع غزة طوال الحرب، ولم يتوقف العدو عن استخدام سلاح التجويع، الذي أقره كابينت الحرب في ديسمبر/كانون الأول 2023 كسلاح أساسي في المعركة، فقد بلغ عدد شهداء سوء التغذية 44 شهيدا قبل 18 يناير/كانون الثاني 2025، في حين استشهد 13 شهيدا -معظمهم من الأطفال- منذ تشديد الحصار والإغلاق في مارس/آذار الماضي.
إلى جانب سياسة التجويع، ارتكب الاحتلال مئات المجازر التي لم تتوقف لحظة واحدة، طالت حتى مراكز الإيواء والمناطق التي ادعى أنها “آمنة”، وبحسب إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن شهداء ما يُسمى بالمناطق الآمنة يمثلون نحو خمس ضحايا حرب الإبادة، حيث تجاوزوا 10 آلاف شهيد.
وقد استهدف الاحتلال منطقة المواصي وحدها، التي زعم أنها “آمنة”، في (38) هجوما، كما قصف مئات المرات مناطق أخرى مصنّفة كـ”آمنة” وفق القانون الدولي، من بينها 236 مركزا للنزوح والإيواء، رغم أن القانون الدولي يمنح هذه المراكز حماية خاصة.
إعلان
ويقول ربايعة إن دولة الاحتلال تحاول من خلال الخطة المعلنة التهرب من مسؤولياتها القانونية التي تفرضها عليها التزاماتها كقوة احتلال بموجب القانون الدولي، وذلك عبر الاستعانة بشركات أمنية مقرها الولايات المتحدة، إضافة إلى ما يسمى بـ”مؤسسة غزة الإنسانية” التي تتسم بالغموض ولا توجد أي مؤشرات حول علاقتها أو خبرتها في العمل الإنساني. ويأتي ذلك في ظل رفض مؤسسات الإغاثة الدولية والأممية التورط في خطة الاحتلال، رغم الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية.
كما أن التجارب المرّة التي مرّ بها الفلسطينيون من نزوح قسري وتجويع واستهدافات إسرائيلية مستمرة، جعلت الفلسطينيين يفقدون الثقة بأي دعاية أو وعود أو مزاعم من قِبَل الاحتلال بشأن حماية المدنيين.
فعدد الشهداء الهائل والمجازر اليومية، إلى جانب نهب المقدرات ومدخرات المواطنين على الحواجز (“الحلابات”)، والإعدامات الميدانية، والاعتقالات التي بلغت 6633 حالة شابها التعذيب منذ بدء حرب الإبادة، إضافة إلى الحرق المتعمد للمنازل والخيام وممتلكات المدنيين في كل مكان تصل إليه يد الاحتلال؛ كلّها عوامل تكرّس حالة عدم الثقة وتشكل عقبات حقيقية أمام أي استجابة فلسطينية لمخططات الاحتلال.
توقعات وخيارات
حذر المحلل العسكري عاموس هرئيل في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” من أن الأمور تتجه نحو كارثة جديدة في قطاع غزة. وأشار إلى أنه إذا لم يتدخل الرئيس الأميركي ترامب فيما يجري هناك بمناسبة زيارته المرتقبة لدول الخليج الأسبوع المقبل، فإن إسرائيل ستوسع عمليتها العسكرية في قطاع غزة بعد انتهاء الزيارة.
وبحسب هرئيل، فإن الطريقة التي جرى التخطيط بها لهذه الخطوة تشير إلى أنها قد تؤدي إلى خسائر في صفوف الرهائن والجنود الإسرائيليين، إضافة إلى تفاقم الكارثة الإنسانية بالنسبة للفلسطينيين، في حين يبقى من المشكوك فيه أن تحقق هذه العملية حلا حقيقيا لمشكلة حماس.
إعلان
وأشار ربايعة إلى أن إسرائيل لا تسعى إلى وجود أي كيان فلسطيني، مهما كان شكله، بل تهدف إلى إبقاء حالة الفوضى قائمة بشكل دائم. وأوضح أن الخطة الإسرائيلية تستهدف بشكل صريح التهجير، وهو هدف معلن ويحظى بدعم شخصي من الرئيس ترامب، ويتجلى ذلك في مناقشة قانون التهجير داخل الكنيست الذي تقدم به حزب بن غفير.
وأضاف أن إسرائيل ترفض أي صيغة لإدارة محلية في قطاع غزة، حتى لو كانت إدارة عشائرية في المرحلة الحالية، والهدف هو إبقاء القطاع في حالة فوضى مستمرة، ليصبح منطقة غير قابلة للحياة تدفع الفلسطينيين إلى النزوح.
في المقابل، رأى نائل عبد الهادي أن التهجير ليس سوى فزاعة وفقاعة إعلامية تهدف إلى صرف الأنظار عن مشروع الإبادة الذي تنفذه حكومة نتنياهو بحق سكان القطاع، وهو مشروع لا يظهر في الأفق أي احتمال لوقفه في المستقبل القريب، خاصة مع ارتباطه بانتهاء ولاية حكومة نتنياهو نهاية عام 2026.
وأضاف “الجيش غير قادر على تنفيذ هذه الخطة دفعة واحدة في جميع المناطق دون تعبئة أعداد كبيرة من قوات الاحتياط. ومن المرجح أن يتم تطبيقها بشكل جزئي وتجريبي في بعض مناطق القطاع تحت غطاء المساعدات الإنسانية، مع استغلال ذلك في الدعاية الانتخابية التي يسعى إليها نتنياهو وشركاؤه من اليمين المتطرف على حساب دماء غزة”.
فيما يرى عفيفية أن مسار المفاوضات بشأن غزة لا يزال غامضًا، إذ يتركز الحديث حول إيجاد آلية جديدة لتوزيع المساعدات بعدما حولتها إسرائيل لقضية مركزية، رغم الرفض الأممي القاطع. وفي الخلفية تسريبات مفاجأة: إدارة أميركية مؤقتة لغزة تطبخ على نار هادئة، بنكهة عراق 2003، تُقصي حماس والسلطة وتستبدلهما بـ “تكنوقراط مُختارين”.
وأضاف أن “عربات غدعون” في غزة، و”الصفقة العمانية” بين الولايات المتحدة والحوثيين، يمثلان مشهدين متوازيين لواقع جديد يجري رسم ملامحه خلف الأبواب المغلقة. وقد يكون الفلسطينيون أول من يدفع ثمن هذا الواقع أو ربما يستثمره، وذلك يتوقف على حجم الصفقة ودور غزة فيها، في انتظار ما سيعلنه ترامب قبل وصوله إلى المنطقة.
إعلان