في ظل التغيرات الاقتصادية العالمية واشتداد المنافسة بين الدول النامية في جنوب شرق آسيا، برزت فيتنام كوجهة لافتة للمستثمرين الأجانب حتى بات البعض يصفها بأنها «تايلاند الجديدة»، لاسيما بعد الطفرة التي شهدها قطاعا السياحة والصناعة فيها.
إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى عام 2015، كانت تايلاند في أوج قوتها الاقتصادية، مدفوعة بازدهار كبير في قطاع التصدير، حيث حققت فائضاً تجارياً قدره 28 مليار دولار.
وفي العام التالي ارتفع هذا الفائض ليصل إلى 43 مليار دولار، واستمرت في الحفاظ على هذا الأداء القوي بفضل صادراتها الزراعية والصناعية، إضافة إلى خدماتها حتى جاءت جائحة «كورونا» لتقلب المعادلة، فقد كشفت الجائحة عن هشاشة الاقتصاديات المعتمدة على التصدير، مثل الاقتصاد التايلاندي، الذي تأثر بشكل مباشر بالصدمات الخارجية كالحروب التجارية والأوبئة، ما أدى إلى اضطراب أنماط السفر والتجارة. وعلى الرغم من بدء التعافي فإن تايلاند لاتزال تواجه صعوبات في استعادة زخمها التجاري السابق، حيث بلغ فائضها التجاري في عام 2024 نحو 11 مليار دولار، وهو رقم لا يُعد سيئاً في السياق العام، لكنه يمثل تراجعاً حاداً بالنسبة لمستوى تايلاند المعتاد.
تحول اقتصادي
هذا التراجع يعكس تحدياً كبيراً للدول المعتمدة على الطلب الخارجي في عالم يتسم بارتفاع التوترات الجيوسياسية، وضعف النمو العالمي.
وفي المقابل، تشهد دولة مجاورة، وهي فيتنام، تحولاً اقتصادياً مذهلاً يعتمد على النموذج الاقتصادي ذاته الذي اتبعته تايلاند: (التصنيع من أجل التصدير).
في عام 2015، كانت فيتنام تعاني من عجز تجاري بقيمة ملياري دولار، وبلغت صادراتها 181 مليار دولار، أي أقل بـ94 مليار دولار من صادرات تايلاند في ذلك الوقت غير أن السنوات التالية شهدت تغييرا جذريا، ففي عام 2023 تجاوزت صادرات فيتنام حاجز 400 مليار دولار، متفوقة بذلك على تايلاند التي بلغت صادراتها نحو 345 مليار دولار فقط. وفي 2024 سجلت فيتنام فائضاً تجارياً قدره 28 مليار دولار، ما يعكس نمواً اقتصادياً مستقراً رغم التحديات الاقتصادية العالمية.
السياحة
ولم تقتصر هذه الطفرة على الجانب الصناعي فقط، بل امتدت أيضاً إلى قطاع السياحة، فرغم استمرار تايلاند في تصدر مشهد السياحة الإقليمية فإن أعداد السياح القادمين إليها لاتزال دون مستويات ما قبل الجائحة، بل وتشير التقديرات إلى أنها قد تسجل تراجعاً في أعداد الزوار هذا العام مقارنة بالعام السابق. وعلى النقيض تستعد فيتنام لتحطيم أرقام قياسية جديدة في عدد السياح الوافدين، مدفوعة بتحسن جودة الخدمات وتطور البنية التحتية نتيجة نموها الاقتصادي.
لكن لا ينبغي اعتبار تحقيق فائض تجاري بحد ذاته دليلاً قاطعاً على تفوق اقتصادي شامل، فالأهم هو فهم السبب وراء تحقيق هذا الفائض أو العجز.
وبالنظر إلى تشابه النموذجين الاقتصاديين في كل من تايلاند وفيتنام، والذي يقوم على (التصنيع من أجل التصدير)، فإن المقارنة بين الدولتين قد تكشف عن رؤى عميقة بشأن نجاح هذا النموذج في ظل الظروف المتغيرة عالمياً.
كلفة الإنتاج
ويُعزى تفوق فيتنام في السنوات الأخيرة جزئياً إلى انخفاض كلفة الإنتاج فيها، حيث إن مستوى الناتج المحلي الإجمالي للفرد في تايلاند أعلى من نظيره في فيتنام، ما يعني أن كلفة مدخلات الإنتاج مثل الأجور والطاقة تكون أعلى نسبياً في تايلاند. هذا الفارق في التكاليف يمنح فيتنام ميزة تنافسية واضحة، ويجذب المستثمرين الأجانب.
وتتضح هذه الأفضلية بشكل خاص عند دراسة تركيبة صادرات كل دولة، ففي عام 2015 كانت صادرات فيتنام موزعة بين الإلكترونيات، النسيج، والمنتجات الزراعية، أما في عام 2023 فقد تحولت بشكل كبير نحو المنتجات ذات القيمة المضافة العالية مثل الهواتف الذكية، والدارات المتكاملة، وأجهزة الكمبيوتر، وهكذا انخفضت نسبة صادرات النسيج والزراعة من 38% إلى 28% خلال تلك الفترة، في حين ارتفعت صادرات الإلكترونيات بشكل لافت لتصل إلى 165 مليار دولار، ما يمثل 41% من إجمالي صادرات البلاد.
وبالمقارنة لم تتجاوز صادرات تايلاند من المنتجات الإلكترونية 48 مليار دولار في العام نفسه.
موقع استراتيجي
وتستفيد فيتنام من موقعها الجغرافي الاستراتيجي القريب من الأسواق الكبرى، مثل الصين وكوريا الجنوبية، حيث إن شركات عملاقة مثل «سامسونغ»، و«إل جي»، و«شاومي» ضخت مليارات الدولارات في إنشاء مصانع داخل فيتنام لتكون قاعدة للتصدير إلى الأسواق العالمية وقد انعكس ذلك حتى على قطاع السياحة، حيث إن نصف السياح الذين زاروا فيتنام في عام 2024 (من أصل 17.5 مليوناً) جاؤوا من الصين وكوريا الجنوبية، ما يعزز العلاقة التجارية والسياحية مع الجيران الآسيويين.
أما تايلاند فتتسم صادراتها بتنوع أكبر، حيث تشمل الزراعة، والسياحة، والإلكترونيات، والمواد الكيميائية، والآلات. وعلى الرغم من أن هذا التنوع يمنح الاقتصاد قاعدة أكثر اتساعاً واستقراراً فإنه يجعله أيضاً أكثر عرضة لتقلبات الطلب العالمي.
يضاف إلى ذلك أن حالة عدم الاستقرار السياسي في تايلاند، والمتمثلة في تغييرات متكررة على مستوى قيادة البلاد، قد تؤثر سلباً في ثقة المستثمرين.
وفي نهاية المطاف، تقدم التجربتان (التايلاندية والفيتنامية) نموذجين مهمين لاقتصادات ناشئة تعتمد على التصدير، فبينما تواجه تايلاند تحديات في استعادة قوتها، تواصل فيتنام صعودها بثبات، لتتحول تدريجياً إلى نجم صاعد في ساحة الاقتصاد العالمي. جيمس غيلد* *أستاذ مساعد في جامعة إندونيسيا عن «الدبلومات»
الحفاظ على النمو
يبدو أن فيتنام قد تمكنت من تحويل اقتصادها بسرعة وفاعلية من اقتصاد تقليدي قائم على الزراعة والنسيج إلى اقتصاد أكثر حداثة يركز على التكنولوجيا والصناعات المتقدمة. وقد أسهمت عوامل عدة في هذا التحول، منها انخفاض تكاليف التصنيع، والموقع الجغرافي المتميز، والسياسات المستقرة، والبنية التحتية المتطورة تدريجياً.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن فيتنام من الحفاظ على هذا النمو القوي على المدى الطويل في ظل بيئة اقتصادية عالمية تتسم بعدم الاستقرار وتغير موازين التجارة العالمية باستمرار؟
• فيتنام شهدت نمواً مذهلاً يعتمد على النموذج الاقتصادي ذاته الذي اتبعته تايلاند (التصنيع من أجل التصدير)، لكن النتائج متباينة.
• يُعزى تفوق فيتنام جزئياً إلى انخفاض كلفة الإنتاج فيها، وقربها من الأسواق الكبرى مثل الصين وكوريا الجنوبية.