يعيش سكان قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ المعاصر، بسبب الأعمال العسكرية المكثفة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي أثبتت محكمتي العدل والجنايات الدوليتين أنها ترقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، في قراراتهما المبدئية الخاصة بهذه الحرب.

القطاع، الذي لم يشهد استقرارا منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، تعرض لتدمير ممنهج أعاده إلى ما قبل العصر الحجري بخسائر بشرية ومادية فادحة، ودمار واسع النطاق للبنية التحتية والمرافق المدنية، أضيفت لما يعانيه أصلا من الحصار المطبق عليه برا وبحرا وجوا قبل نحو 18 عاما.

وقد دفعت الحرب الإسرائيلية وحرمان السكان من الغذاء والدواء والماء، منظمات إغاثية لإطلاق نداء أخير لإنقاذ سكان غزة من الموت المحقق، مؤكدين أنه “لم يتبق سوى شهرين على هذه الكارثة”.

الجزيرة نت ترصد في هذا التقرير الواقع الصحي والإنساني المنهار في غزة، استنادا إلى أرقام مؤسسات تابعة للأمم المتحدة وأخرى تابعة لحكومة غزة.

وضع طبي منهار

يشهد القطاع الطبي في غزة انهيارا كاملا بعد استهداف قوات الاحتلال كافة المنشآت الطبية مع بدء عملياتها العسكرية، فوفق تقرير لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) صدر في مايو/أيار الماضي، فإن 9 مراكز صحية من أصل 27 تابعة لها لا تزال تعمل في القطاع بشكل جزئي، وتعاني من نقص حاد في الموارد، ومن المتوقع نفاد إمداداتها وإغلاقها خلال أيام.

كما أدى الحصار الإسرائيلي الأخير منذ الثاني من مارس/آذار الماضي وحتى اليوم إلى منع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مما تسبب في نفاد الإمدادات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الغذاء والوقود والمساعدات الطبية ولقاحات الأطفال.

ووفقا لوزارة الصحة الفلسطينية، فإن 43% من الأدوية الأساسية نفدت بحلول نهاية أبريل/نيسان، مع وجود فجوات كبيرة في خدمات العلاج الكيميائي وأمراض الدم (62%)، وصحة الأم والطفل (53%)، والرعاية الأولية (48%).

بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تنفد 64% من المستلزمات الأساسية في غضون أسابيع، مما يؤثر بشدة على رعاية القلب المفتوح والقسطرة (100%)، وجراحة العظام (87%)، والرعاية العينية (84%) في ظل تدمير البنية الأساسية الصحية أساسا وافتقادها للوقود اللازم واستهداف الأطقم الطبية.

وينسحب ما يجري مع المنشآت الطبية التي تديرها الأونروا على بقية المنشآت التي تديرها منظمات أخرى، بل يعد وضعها أكثر صعوبة، وقد تم توثيق 720 هجوما على المرافق الصحية حتى 22 مايو/أيار الماضي، مما أدى إلى استشهاد 917 شخصا وإصابة 1406 آخرين، كما تضررت 125 منشأة صحية، بما في ذلك 34 مستشفى، و186 سيارة إسعاف.

الاحتياجات الطبية

ومع انهيار المنظومة الصحية وغياب الدواء والوقود، تواجه غزة تحديات هائلة على المدى الطويل، حيث يعاني أكثر من ألفي شخص من السرطان كل عام، بينهم 122 طفلا، وأكثر من 1500 مريض بحاجة إلى غسيل كلوي، وأكثر من 60 ألف شخص يعانون من السكر، و45 ألف مريض يعانون من أمراض القلب، وأكثر من 650 ألف شخص يعانون من ارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى 485 ألف شخص يعانون من اضطرابات الصحة النفسية.

وفقا لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 500 ألف امرأة في سن الإنجاب تفتقر إلى الوصول إلى الخدمات الأساسية بما في ذلك رعاية ما قبل وما بعد الولادة ونحو 50 ألف حامل بينهن حوالي 5500 امرأة من المتوقع أن يلدن خلال الشهر المقبل، بما في ذلك حوالي 1400 امرأة تتطلب ولادة قيصرية، مع نحو 180 ولادة يوميا.

ومع إصدار قوات الاحتلال الإسرائيلي ما لا يقل عن 29 أمر إخلاء منذ 18 مارس/آذار الماضي، أصبح حوالي 197.7 كيلومترا مربعا من قطاع غزة تحت أوامر النزوح النشطة (المساحة الإجمالية لقطاع غزة حوالي 365 كيلومترا مربعا).

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 599 ألف شخص قد نزحوا مرة أخرى منذ انهيار وقف إطلاق النار.

الوجبات البسيطة أصبحت من الماضي بعد إحكام جيش الاحتلال الإسرائيلي الحصار على غزة (الجزيرة)

انتشار سوء التغذية

كما أدى الحصار الإسرائيلي ومنع وصول المساعدات لكل محافظات القطاع إلى تدهور الوضع الغذائي ووصوله إلى درجة الجوع.

وبحسب مدير الصحة في الأونروا الدكتور أكيهيرو سيتا، فقد أظهرت بياناتهم لشهر أبريل/نيسان الماضي تزايد في حالات سوء التغذية بين السكان، مؤكدا أن استمرار النقص الحالي في الغذاء سيؤدي لخروج الأمر عن نطاق السيطرة.

وتشير التقديرات إلى أن نحو 71 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 6 و59 شهرا سيعانون من سوء التغذية الحاد بين أبريل/نيسان 2025 ومارس/آذار 2026، بما في ذلك 14 ألف حالة متوقعة من سوء التغذية الحاد، بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج ما يقرب من 17 ألف امرأة حامل ومرضع إلى علاج من سوء التغذية الحاد.

الآثار النفسية للحرب

كما أدت الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع إلى ارتفاع معدلات انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان، مثل اضطرابات ما بعد الصدمة (54% لدى الأطفال، 40% لدى البالغين) والاكتئاب إلى 41% لدى الأطفال، 45% لدى البالغين.

وكذلك بلغت معدلات الإصابة بالقلق 34% لدى الأطفال، و37% لدى البالغين، ويزداد الأمر صعوبة في عدم توافر أي مستوى من الإغاثة في هذا المجال حاليا في القطاع مع استمرار الوضع السيئ حاليا.

إغلاق تام للحياة

وفي تصريحات للجزيرة نت، قال الدكتور مالك أبو رجيلة مدير عمليات الشرق الأوسط في منظمة جيفت أوف ذا جيفرز الجنوب أفريقية إن “الوضع في غزة لا يمكن وصفه إلا بالكارثة على كل المستويات، خاصة في ظل استهداف الاحتلال للعاملين في المجال الإغاثي، وقد فقدنا العديد من العاملين معنا، ومن بينهم مدير مكتبنا في غزة، خلال عملهم، ورغم ذلك نحاول توصيل ما نستطيع من أدوية وأغذية إلى السكان”.

وأكد أبو رجيلة، الذي يعمل من القاهرة وسيناء وإسطنبول وينسق إدخال المساعدات الإنسانية للقطاع مع العديد من المنظمات الإنسانية الدولية، أن إدخال المساعدات أصبح شبه مستحيل حاليا بسبب الإغلاق المطبق على القطاع من جانب الاحتلال، وهو ما يؤكد أن القطاع قد يشهد حالة موت تام لسكانه خلال أقل من شهرين.

أضرار مادية هائلة

وتقدر احتياجات إعادة الإعمار والتعافي في غزة بنحو 53 مليار دولار، وفقا لتقرير “التقييم السريع المؤقت للأضرار والاحتياجات في غزة والضفة الغربية” الصادر عن البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في فبراير/شباط 2025.

ويحلل التقرير الأضرار والخسائر واحتياجات التعافي وإعادة الإعمار في جميع قطاعات الاقتصاد الفلسطيني تقريبا استنادا إلى بيانات من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2024.

وكان قطاع الإسكان هو الأكثر تضررا، حيث يمثل 53% من إجمالي الأضرار، يليه قطاع التجارة والصناعة بنسبة 20%. كما تقدر الأضرار الواسعة النطاق التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية مثل الصحة والمياه والنقل بأكثر من 15% من إجمالي الأضرار.

وفقا لتقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في يناير/كانون الثاني 2025، تظهر بيانات الأقمار الصناعية أن 60% من المباني متضررة أو مدمرة تماما، بما في ذلك 92% من المنازل و88% من البنية التحتية الأساسية.

وفقا لتحليل الأقمار الصناعية الذي أجرته الأمم المتحدة (يونوسات) في أبريل/نيسان 2025، تضرر نحو 174 ألفا و500 مبنى في جميع أنحاء قطاع غزة، منها 68% دمرت بالكامل.

وتشير تقديرات أخرى إلى أن ما يصل إلى 80% من البنية التحتية المدنية في غزة قد دمرت أو تضررت.

ويضاف إليها إدارة ما بين 41 إلى 47 مليون طن من الأنقاض تحتاج 22 عاما لإزالتها بتكلفة تزيد على مليار دولار، بحسب تقديرات تقرير أممي.

وترتكب إسرائيل، بدعم أميركي مطلق، إبادة جماعية في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلّفت أكثر من 195 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، فضلا عن مئات آلاف النازحين.

شاركها.
Exit mobile version