المشهد الإسرائيلي
برهنت حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة أن إسرائيل الجديدة بقيادتها الفاشية لا تأخذ في الاعتبار القانون الدولي الإنساني ولا تلقي بالا لتصريحات الإدانة العربية والدولية. والأمر لا يقتصر فقط على قيادتها العسكرية أو السياسية بل تجد القبول في ذلك ليس فقط لدى الجمهور الراغب في الانتقام وإنما كذلك لدى المؤسسة لقانونية، بما في ذلك المحكمة العليا. وسبق لهذه المحكمة أن رفضت نهاية الشهر الفائت التماسات قدمتها منظمات حقوق إنسان إسرائيلية ضد إغلاق المعابر ومنع إدخال المساعدات الإنسانية الغذائية والدوائية.
ورغم استمرار ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية لرئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب بينها الحصار والتجويع والعقاب الجماعي، فإن هذه الممارسات استمرت وتعاظمت بعد استئناف الحرب.
وكان قرار المحكمة العليا الإسرائيلية -بشأن عدم التدخل في قرار الحكومة بقطع الكهرباء عن محطة تحلية المياه المركزية بالقطاع وإغلاق المعابر- تقليصا لدورها في التدخل بقرارات الحكومة ذات الطابع السياسي والأمني. وقد عنى -في نظر خبراء القانون- تخلي المؤسسة القضائية إلى جانب المؤسسة السياسية عن التزاماتها بموجب القانون الدولي مما يشكل أيضا تراجعا في استقلال الجهاز القضائي الإسرائيلي. وهذه ليست المرة الأولى التي تطوع فيها المحكمة العليا التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي لمصالح حزبية.
ومعروف أن إسرائيل -ومنذ بدء الحرب قبل أكثر من عام ونصف العام- مارست بشكل مفضوح سياسة التجويع والتعطيش والعقاب الجماعي مما اعتبر في نظر المحكمة الجنائية الدولية جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية. ولم تفلح ملاحقة المحكمة ولا الإدانات المتزايدة من جانب المنظمات الدولية، وخصوصا الأمم المتحدة، في إجبار إسرائيل عن التراجع عن هذه الممارسات بل فاقمتها خصوصا بعد استئناف الحرب منذ بداية مارس/آذار الماضي إثر انتهاك الهدنة الأخيرة. فقطاع غزة، الذي يعيش حرب تدمير إسرائيلية شاملة، يعيش أشرس وأطول فترة حصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية، وبشكل معلن ورسمي بأن هذه وسيلة ضغط على حماس لتليين موقفها في المفاوضات. وهذا ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة وبلوغها حد الكارثة، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الماء والغذاء والدواء، بعد أن تم حظر دخول جميع المساعدات، بما في ذلك الوقود. ولا تخفي بعض الأوساط الرسمية في إسرائيل أن الغاية من الحصار والتجويع والقتل هو إيجاد شروط أفضل لإجبار السكان على “الهجرة الطوعية” وترك قطاع غزة.
الهجرة الطوعية قسرا
ومؤخرا أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس بعد تهجير أهالي رفح وشمال غزة وشرقي خان يونس أنه “تم إخلاء مئات الآلاف من السكان، وأصبحت 10% من أراضي غزة جزءًا من المناطق الأمنية الإسرائيلية. والهدف الرئيسي هو ممارسة ضغط شديد على حماس للعودة إلى خطة إطلاق سراح الأسرى، وكلما أصرت حماس على رفضها كثف الجيش الإسرائيلي نشاطه. وأضاف أن “غزة ستصبح أصغر وأكثر عزلة، وسيضطر المزيد والمزيد من سكانها إلى النزوح من مناطق القتال”. وقد دعمه في هذا الموقف الوزير زئيف إلكين الذي لم يقصر الأمر على “الاحتفاظ بالأراضي لأغراض أمنية” لكنه أضاف في وقت لاحق أنه “لا يستبعد تطبيق السيادة الإسرائيلية على المحيط”.
ومن الجلي أن هذا بين الأهداف التي تتطلع إلى تحقيقها في غزة حكومةُ نتنياهو التي تقفز في مواقفها تجاه الحصار والتجويع واستمرار الحرب بين التبريرات الأمنية والأيديولوجية. وقد انتقد كثيرون، بينهم الجنرال إسحق بريك -في رسالة مفتوحة- رئيس الأركان الجنرال إيال زامير لقبوله استخدام الجيش دوافع سياسية وأيديولوجية وعدم حصر نفسه في الجانب الأمني العسكري. وذكر على سبيل المثال قبول زامير استخدام الجيش للإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية وهو ما كان يرفضه رئيس الأركان السابق.
وكان هذا الموضوع -ولا يزال- موضع نقاش وسجال في الجيش خصوصا بين من يرون ضرورة الالتزام بالقانون الدولي، حتى بتفسيراته المتساهلة، وبين من لا يرون البتة حاجة لذلك. ويعرف الجيش أن أغلب ممارساته في القطاع من قصف وقتل وتدمير وحصر وتجويع وتهجير تصنف ضمن جرائم الحرب. ولذلك فإنه يطلب من الجنود عدم التعريف بنشاطاتهم في وسائل التواصل وصار يظلل وجوه الجنود العاملين في القطاع حتى لا يتم التعرف عليهم. ومع ذلك هناك في النيابة العامة العسكرية من ينصح قيادة الجيش على الدوام بتجنب الحديث عن الحصار والتجويع والقول إن في القطاع مواد غذائية كافية وإنه لن تحدث مجاعة.
الخوف من الملاحقة
وقبل أقل من أسبوعين، في 7 أبريل/نيسان الجاري، كشف موقع “واي نت” (ynet) الإخباري النقاب عن أنه حتى من دون اتفاق لتبادل الأسرى، يستعد الجيش الإسرائيلي لاستئناف وصول المساعدات إلى غزة. وكشف أن الجيش يستعد بموازاة ذلك لبدء مشروع تجريبي لتوزيع المساعدات الغذائية على الفلسطينيين بشكل لا يسمح لحماس بالاستفادة منها، وأنه ينوي اختبار هذا النموذج في رفح أولا. ونقل الموقع تقديرات بالجيش أشارت إلى أن المساعدات الإنسانية في غزة سوف تنفد خلال شهر تقريباً. ولذلك ينبغي أن يكون واضحاً للقيادة السياسية أنه لا يوجد خيار سوى استئناف الإمدادات.
وأضاف موقع “واي نت” أنه جرت مؤخرا مناقشات حول هذا الموضوع في أعلى مراتب الجيش الإسرائيلي، وتم التوضيح للقيادة السياسية أيضا بأن المرحلة تقترب عندما لن يكون هناك مفر من استئناف إمداد قطاع غزة بالغذاء والوقود والأدوية، إلا إذا كان القادة في القيادة الجنوبية الذين يشاركون في العمليات بقطاع غزة، وكذلك من بين كبار قادة الجيش الإسرائيلي والقيادة السياسية، يخاطرون عن علم بانتهاكات القانون الدولي. وحددت هذه النقاشات أن المواد الغذائية سوف تنفد من القطاع خلال شهر إلى شهر ونصف الشهر ويجب الاستعداد لذلك قبل أن تحدث مجاعة فعلية.
وما إن نشر الأمر حتى بادرت حكومة نتنياهو بإنكار ذلك معلنة أن المساعدات الإنسانية إلى غزة لن تستأنف. وأبدى وزير الدفاع كاتس غضبا شديدا في أعقاب هذا الكشف مطالبا بتوضيح من رئيس الأركان الجنرال زامير، آمرا إياه بإصدار التوضيح من مكتب المتحدث باسم الجيش الذي وافق على النشر. كما رد رئيس الحكومة على هذا الكشف في ذلك الوقت قائلاً إن “التقرير غير صحيح”. وأوضح مكتبه أنه “وفقا لتوجيهات القيادة السياسية فإن الجيش سيواصل ممارسة ضغوط متزايدة على حماس لإعادة رهائننا وتحقيق أهداف الحرب كافة في إطار القانون الدولي”.
وطبعا لم يتخلف عن إبداء الغضب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي هاجم الجيش قائلا “إذا كان هذا صحيحا، فمن المدهش أن يتحدث الجيش الإسرائيلي مع المستوى السياسي عبر وسائل الإعلام”. وأضاف “اقرأوا شفتاي: لن تدخل حتى حبة قمح واحدة إلى حماس. هذا هو الخطأ في (المعرفة) الذي وقع في الجزء الأول من الحرب”. وشرح موقفه بقوله “كانت هناك إنجازات عسكرية عملياتية جيدة جدًا، لكن عدم منع المساعدات الإنسانية التي وصلت إلى حماس أبقي اعتماد السكان عليها. وحصلت حماس على مليار دولار نتيجةً للطريقة الملتوية التي أُديرت بها الجهود الإنسانية في قطاع غزة. وتحوّل هذا إلى مساعدات لوجستية لحماس”.
كاتس يتراجع
وكما هو معروف، بعد أقل من أسبوع على هذه المواقف عاد وزير الدفاع ليعلن يوم الأربعاء عن وجود خطط مستقبلية لإدخال مساعدات إنسانية من إسرائيل إلى قطاع غزة “من خلال الجمعيات المدنية” وأوضح أن إنشاء مثل هذه الآلية “لن يسمح لحماس بالوصول إلى هذه المساعدات في المستقبل”. وقال كاتس “ينبغي بذل كل الجهود الممكنة لإطلاق سراح جميع الرهائن في إطار مخطط ويتكوف، وبناء جسر لهزيمة حماس وإنشاء البنية التحتية للتوزيع من خلال شركات مدنية في وقت لاحق، مع إعطاء سلامة الجنود الأولوية القصوى”. وسرعان ما عاد الغضب إلى الواجهة. فعائلات الأسرى الإسرائيليين طلبت من كاتس الاهتمام بالإفراج عن الأسرى وليس بالسماح أو منع إدخال المساعدات الإنسانية، معتبرة أن “الكثير من الكلمات والوعود الفارغة لن تنجح في إخفاء الحقيقة المرة وهي أن خطة كاتس وهم”.
وهنا انتفض على هذه الأقوال مجددا كل من بن غفير الذي أعلن أنه “من العار أننا لا نتعلم من أخطائنا. ما دام رهائننا يقبعون في الأنفاق، فلا مبرر لدخول غرام واحد من الطعام إلى غزة”. وأضاف أنه سيتواصل مع رئيس الوزراء بطلب طرح الموضوع للتصويت في جلسة المجلس السياسي والأمني. وقال أيضا إن ما يجب فعله في غزة “هو زيادة وتيرة القصف، أريد قتل الإرهابيين، أريد قصف كهربائهم وغذائهم. علينا تشجيع الهجرة الطوعية”.
كما قال زعيم “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان “بينما يتضور رهائننا جوعاً في الأنفاق، ويركض سكان الجنوب إلى الملاجئ في العيد، تستسلم الحكومة الإسرائيلية مرة أخرى وتعتزم تقديم المساعدات الإنسانية إلى غزة مرة أخرى. لا ينبغي أن نسمح بحدوث هذا”.
وبعد حملة سياسية واسعة ضد إعلان كاتس، تراجع وزير الدفاع بعد ذلك ونشر توضيحا للأمر “كما ذكرت في بياني، فإن سياسة إسرائيل واضحة. لا أحد يرغب، في الواقع الحالي، إدخال أي مساعدات إنسانية إلى غزة”. وأكد أنه فيما يتعلق بالمستقبل، يجب بناء آلية استخدام المجتمع المدني أداة لن تسمح لحماس بالوصول إلى هناك.
وفي كل حال، يشغل قادة إسرائيل المجتمع بالسجال حول إدخال أو عدم إدخال المساعدات الإنسانية في ظل الجمود بالاتصالات وفشل الضغوط العسكرية سواء في إعادة الأسرى وحسم الحرب. ورغم أن بعض وزراء حكومة نتنياهو طالبوا علنا وضمنا بتجويع وتعطيش الفلسطينيين في غزة بل و”إطفاء نور الشمس” عنهم، إلا أن صمود غزة بقي شوكة في حلوقهم. فيتحدثون ويضخمون الأرقام عن “هجرة طوعية” على أمل أن يسهم ذلك في إطفاء نار الغضب، ولكن من دون جدوى. وما تضييق هامش الحياة في قطاع غزة عبر إنشاء المزيد من المحاور وتهجير المزيد من مئات الألوف من بيوتهم إلا هو تعبير عن حالة الحنق التي يعانون منها جراء الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.