تُعد زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، الخميس الماضي، إلى العاصمة الأميركية واشنطن، الأولى لمسؤول أوروبي منذ أن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرسوم الجمركية على العديد من دول العالم، في اليوم الذي وصفه بـ«يوم تحرير أميركا».
وتمثل الزيارة اختباراً حاسماً لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المشهد العالمي المتغير بسرع، في وقت ينظر فيه إلى ميلوني على أنها «الجسر الجديد» بين الولايات المتحدة وأوروبا، ذلك أنها تستطيع أن تحافظ على علاقاتها مع القادة الأوروبيين ومع ترامب نفسه، ما يعد إنجازاً كبيراً.
روح مشتركة
لم تستغرق رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني الكثير من الوقت في المكتب البيضاوي لتشير إلى مضيفها بأنها تشاطره روحاً مشتركة في الرأي، وأعلنت بالإنجليزية: «نحن الاثنان نخوض معركةً أخرى، معركة ضد الأيديولوجيات التي تسعى للقضاء على ثقافة التنوع والمساواة والاندماج، وتهدف لمحو تاريخنا»، مستخدمةً بعضاً من المصطلحات الرمزية المفضلة لدى ترامب لوصف معركتهما ضد ما يراه الاثنان مُثُلاً تقدمية جامحة. لقد كانت محاولة غير مباشرة من ميلوني للتوضيح منذ البداية أنها ليست من نوع القادة الأوروبيين الذين استضافهم ترامب في الغرفة نفسها على مدار الشهرين الماضيين.
ميلوني.. الشعبوية والمحافظة والسياسيّة الماهرة، جذبت انتباه ترامب ومستشاريه. كانت الزعيمة الوحيدة من أوروبا التي حضرت حفل تنصيبه في يناير 2025، وهي صديقة لمستشاره الأقوى الملياردير إيلون ماسك، وقد تبنت الموقف نفسه المناهض للهجرة الذي ساعد في عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
ومثل رئيس السلفادور نجيب بوكيلة، وهو حليف آخر ذو توجه مماثل زار البيت الأبيض هذا الأسبوع، بدا أن ميلوني تعبر عن إعجابها وثقتها بشعار ترامب «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً»، عندما قالت: «هدفي هو جعل الغرب عظيماً مجدداً، وأعتقد أننا نستطيع تحقيق ذلك معاً».
وسواء كان هذا طموح ترامب أم لا، فأوروبا ليست أولوية رئيسة في أجندة ترامب، فقد انتقد أوروبا بشدة، مُشيراً إلى أن القارة أمضت العقود القليلة الماضية تتواطأ لما أسماه «إفساد» الولايات المتحدة.
إذاً، فإن الأمر ليس سراً أن يُعجب ترامب بميلوني، فبعد لقائه برئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة للمرة الأولى في باريس أواخر العام الماضي، وصفها بأنها «مصدر إلهام حقيقي»، يُمكنه «العمل معها لإصلاح العالم قليلاً».
وبعد اجتماع ثانٍ في منتجع «مار إيه لاغو» بفلوريدا يناير الماضي، وصفها بأنها «امرأة رائعة.. أذهلت أوروبا حقاً». وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، كانت هي رئيسة الحكومة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي دُعيت لحضور حفل تنصيب ترامب. ومنذ انتخابه حرصت على أن تكون أقرب زعيمة أوروبية إلى ترامب، معززة مكانتها كـ«جسر» بين الإدارة الأميركية الجديدة وأوروبا.
تقارب أيديولوجي
وقبل مغادرتها واشنطن قالت في فعالية لرجال الأعمال الإيطاليين: «إنها لحظة عصيبة، دعونا نرَ كيف ستسير الأمور خلال الساعات المقبلة». وأضافت بنبرة ساخرة: «لا أشعر بأي ضغط بشأن اليومين المقبلين، كما يمكنكم أن تتخيلوا».
لاشك أن ميلوني لديها تقارب أيديولوجي مع ترامب، وتتداخل آراؤها في قضايا مثل الهجرة وحقوق مجتمع النساء والإجهاض مع آرائه.
ومع ذلك، فإن وجود زعيم في روما يُشاركه عداءه للمُثُل الليبرالية يُمثل فرصة مُلائمة لترامب لإصلاح ذات البين بين أوروبا وأميركا في وقت وصلت فيه العلاقات عبر الأطلسي إلى نقطة الانهيار. وعلى عكس الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي لم تتمكن، على الرغم من محاولاتها المتكررة، من تأمين لقاء أو محادثة مع ترامب منذ توليه منصبه، وفقاً لمسؤولين أوروبيين، فإن ميلوني زعيمة وطنية انتُخبت جزئياً بناء على برنامجها اليميني المتطرف.
دعم أوكرانيا
وعلى الرغم من أن مسؤولين في إدارة الرئيس السابق جو بايدن أعربوا عن دهشتهم من دعم ميلوني القوي لأوكرانيا وأشادوا بقيادتها لـ«مجموعة الـ7» العام الماضي، فإن ترامب لا يعتبرها مقربة بشكل مفرط من سلفه المباشر، وهو أمر يقول بعض مساعدي ترامب إنه أعاق محاولات فون دير لاين لكسب تأييد ترامب.
وقبل زيارتها للبيت الأبيض، وصف أحد مساعدي ترامب ميلوني بأنها قناة اتصال لأوروبا يمكن أن تعمل كوسيط لبقية القارة. وقال المسؤول: «نحن بالتأكيد نراها محاوراً قيّماً مع الاتحاد الأوروبي». وقالت ميلوني نفسها قبل وصولها إلى واشنطن إنها تفهم جيداً التوقعات من زيارتها.
ومع بدء اجتماعهما، قال ترامب: «الجميع يحبها ويحترمها.. لا أستطيع قول ذلك عن كثيرين».
وقد يكون هذا مبالغة، إذ يتهمها خصومها في إيطاليا بالازدواجية في كسب ود واشنطن وبروكسل، إلا أن ميلوني في نظر ترامب، على الأقل، تستطيع أن تحافظ على علاقاتها مع القادة الأوروبيين ومعه أيضاً، ما يعد إنجازاً كبيراً.
وعلى عكس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي انتهت زيارته للمكتب البيضاوي في فبراير بكارثة صاخبة، لم تكن ميلوني في البيت الأبيض لإقناع الرئيس باتباع مسار معين في ما يتعلق بأوكرانيا، أو لمحاولة تصحيح آرائه بشأن الدعم المالي الأوروبي. وعندما بدأ ترامب بالهجوم على زيلينسكي خلال لقائهما يوم الخميس، مُعلناً أنه «ليس من مُعجبي» الرئيس الأوكراني، اختارت ميلوني عدم التدخل. ورغم وصفها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ«الغازي» أثناء إجابتها على سؤال باللغة الإيطالية حول المسؤول عن الحرب، قاطعت مترجمها في منتصف الجملة قبل أن يترجم العبارات بصوت عالٍ باللغة الإنجليزية ليسمعه ترامب. وقالت للمترجم: «سأتولى ذلك»، ثم استطردت بالإنجليزية لتروي ما قالته للتو عن زيادة الإنفاق الدفاعي الإيطالي، لكنها تخطت إجابتها بشأن بوتين.
قدرة محدودة
ووفقاً لمسؤولين أوروبيين، نسقت ميلوني عن كثب مع الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، قبل سفرها إلى واشنطن، وتحافظ على علاقات وثيقة مع نظرائها في باريس ولندن وبرلين. ومع ذلك، فإن قدرتها محدودة لتأمين إعفاء من الرسوم الجمركية البالغة 20% التي هدد ترامب بفرضها على الاتحاد الأوروبي؛ إذ يجب التفاوض على أي اتفاق تجاري جديد بين واشنطن ومسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
وحتى الآن، لم يتضح لدى هؤلاء المسؤولين الكثير بشأن ما يسعى إليه ترامب في اتفاق جديد، ولم يكن واضحاً ما إذا كانت ميلوني ستغادر واشنطن بأي رؤى جديدة. ومع ذلك، كان ترامب متفائلاً بإمكانية التوصل إلى اتفاق تجاري، حيث قال أثناء تناوله الغداء معها: «سيكون هناك اتفاق تجاري بنسبة 100%»، وهو ما كان على الأقل بصيص أمل لتجنب حرب تجارية عبر «الأطلسي». عن «سي إن إن»
التجارة والدفاع بين أميركا وإيطاليا
إيطاليا بقيادة ميلوني لا تُمثل ما يسعى ترامب للحصول عليه من أوروبا. ويبلغ فائض إيطاليا التجاري مع الولايات المتحدة نحو 45 مليار دولار، حيث يشتري الأميركيون من إيطاليا المشروبات وجبن البارميزان وحقائب غوتشي، كما أن إيطاليا لا تنفق حالياً سوى 1.5% من ناتجها المحلي على الدفاع، وهو أقل بكثير من هدف حلف شمال الأطلسي (ناتو) البالغ 2%. وفي العادة، فإن كلا المجالين يستفزان غضب ترامب، لكنه تجاهل الحديث عن ذلك في البيت الأبيض، ولم يعامل ميلوني إلا باحترام. وقال بنبرةٍ مُشرقة: «أُقرّ بأنها اقتحمت أوروبا بزخمٍ هائل»، حتى إنه قبل دعوتها لزيارة روما للقاء قادة أوروبيين آخرين هناك.