خلال السنوات الأخيرة رسّخت إيطاليا نفسها باعتبارها قوة مهمة على الصعيد العالمي، حيث عملت على تنشيط سياستها الخارجية بتماسك متجدد ووضوح استراتيجي.
وتمكنت روما من تعزيز رؤيتها، ومصداقيتها، ونفوذها على المشهد الأوروبي، الذي تشكل نتيجة الحرب الأوكرانية، وفي ظل نظام دولي مشتت، فرّقته المنافسة بين القوى العظمى في العالم، وتمكنت من الانتقال نحو الأماكن التي تركها لاعبون أوروبيون آخرون كأماكن فراغ استراتيجية.
وحققت قيادة رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، استقراراً حكومياً له دور حاسم في تعزيز مكانة إيطاليا شريكاً موثوقاً، لاسيما في ظل حالة عدم اليقين التي تشهدها بعض العواصم الأوروبية الكبرى.
وحافظت حكومة ميلوني، على مدى السنوات الثلاث الماضية، على الأسس التقليدية لأمن إيطاليا وازدهارها الاقتصادي، معترفة بالولايات المتحدة كضامنها الأمني الرئيس من خلال حلف شمال الأطلسي «الناتو»، إلى جانب التكامل الأوروبي والسوق الموحدة، واستقرار النظام المتعدد الأطراف القائم على القواعد.
وترتكز مكانة إيطاليا المتجددة على ثلاثة محاور أساسية: خيارات سياسية خارجية جريئة ومنسقة، ودور ريادي في الممرات الاستراتيجية الناشئة، وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي، وأسهمت هذه العوامل مجتمعة في جعل إيطاليا صوتاً محورياً متزايد الأهمية في النقاشات الأوروبية والدولية.
خيارات ميلوني الجيوسياسية
تعكس السياسة الخارجية لإيطاليا، في ظل حكومة ميلوني، تغيراً نحو مزيد من الواقعية، ونهج يركز على الأمن، تشكل نتيجة الصدمة الاستراتيجية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، والتي أودت بأرواح كثيرين.
وقامت روما بدعم كييف بحزم واستمرار، وتبنت موقفاً واضحاً يدين روسيا، منحازة بذلك وبوضوح إلى الدفاع عن القانون الدولي، حتى وإن كان ذلك على حساب التكاليف السياسية الداخلية المحتملة، وإعادة تقييم الافتراضات الاستراتيجية الراسخة.
وأعادت إيطاليا تقييم علاقتها مع الصين، في الوقت ذاته، فنأت بنفسها دبلوماسياً عن مبادرة (الحزام والطريق)، مع إعطاء الأولوية لأمن سلاسل التوريد، ومرونتها، والترابط الاستراتيجي، دون المساس بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وترافق هذا الموقف، الأكثر حزماً تجاه روسيا والصين، مع انخراط متجدد في منطقة البحر الأبيض المتوسط الأوسع وغرب البلقان، حيث عززت إيطاليا دورها الاستراتيجي من خلال دعم التكامل الأوروبي الأطلسي للمنطقة، ودعم حل النزاعات الإقليمية، وتعزيز التنمية الاقتصادية والمرونة الديمقراطية.
وتمارس روما نفوذاً خفياً، لكنه مؤثر في منطقة القوقاز، من خلال الاستفادة من شراكات الطاقة وإطار عمل الاتحاد الأوروبي لدعم الاستقرار الإقليمي، وبرزت إيطاليا مجدداً، كفاعل مؤثر في الشرق الأوسط، وتبنت نهجاً عملياً يركز على خفض التصعيد والتنسيق عبر الأطلسي.
وتمثل إفريقيا دعامة أساسية للموقف الدولي لإيطاليا، وتقوم روما من خلال خطة «ماتي»، وهي مبادرة إيطاليا الاستراتيجية في إفريقيا، بتشجيع الشراكات الطويلة الأمد بينها وبين دول القارة الإفريقية في مجال الطاقة، والهجرة، والبنية التحتية، والتنمية الاقتصادية، مركزة على الحاجة على ضرورة وجود مشاركة أوروبية أكثر تنظيماً واستراتيجية مع القارة الإفريقية، وذلك من خلال الاندماج في مبادرات مثل «بوابة الاتحاد الأوروبي العالمية».
وتستمد إيطاليا قيمتها الاستراتيجية أيضاً من دورها الريادي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تترجم الخبرات الإقليمية، إلى مبادرات أوروبية ملموسة.
مجالات اقتصادية جديدة
في بيئة عالمية تشكلت عن طريق التشرذم والعلاقات الجغرافية الجديدة، تمكنت حكومة ميلوني، من تعزيز مكانة إيطاليا مركزاً طبيعياً يربط أوروبا، بالبحر الأبيض ودول منطقة «أوراسيا»، مستخدمة الممرات الاقتصادية والبنية التحتية والطاقة والترابط الرقمي كأدوات للتأثير والتنمية.
وبرزت روما كإحدى أبرز الدول الأوروبية الداعمة لمبادرات الترابط الاستراتيجي، ولاسيما الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ما عزز شراكتها مع الهند فاعلاً رئيساً في التوازن العالمي المتغير.
ولا يعد الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، مجرد مشروع بنية تحتية، يستفيد منه العديد من الدول لنقل الصادرات، وإنما كأداة جيوسياسية لتعزيز الروابط بين أوروبا، والشرق الأوسط، والممرات الاستراتيجية المتنوعة ومنطقة المحيطين الهندي والهادي.
و«الممر الاقتصادي» يقلل من الاعتماد الاستراتيجي، ضمن إطار أوروبي وعبر الأطلسي، ويشكل بديلاً لمبادرة (الحزام والطريق) الصينية.
وتشمل هذه الاستراتيجية أيضا تجديد الاستثمار في موانئ البحر الأدرياتيكي، مثل مدينة «ترييستا» الإيطالية، مع إعادة تنشيط دور البحر الأبيض المتوسط باعتباره «بحراً وسطاً» من حيث موقعه، كما أنه يربط المحيط الأطلسي بالمحيطين الهندي والهادئ.
نمو مستدام
يدعم تحسن الأسس الاقتصادية وتعزيز المصداقية المالية، التوقعات الدولية المتجددة لإيطاليا، ويشير انخفاض هامش الربح إلى 67 نقطة أساس، وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من 15 عاماً، إلى إعادة تقييم هيكلية للمخاطر السيادية، ويقلل من تكاليف خدمة الدين، ويوفر موارد إضافية للاستثمار.
كما أن رفع وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني، وهو الأول منذ عام 2002، يرسخ مكانة إيطاليا كفاعل أكثر استقراراً ومرونة داخل منطقة اليورو.
ووصلت الصادرات في عام 2024 إلى معدلات قياسية، حيث وصلت قيمتها إلى نحو 717 مليار يورو، مؤكدة مكانة إيطاليا كثاني أكبر قوة صناعية في أوروبا.
ويعد هذا الإنجاز مهماً على نحو خاص، بالنظر إلى أن الصادرات تشكل نحو 30% من إجمالي الدخل القومي. وزادت الاستثمارات الأجنبية المباشرة، في الوقت ذاته، بنسبة 5%، مخالفة بذلك الاتجاه الأوروبي الذي سجل انخفاضاً بنسبة 5%.
وتمثل العلاقات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة وإيطاليا ركيزة أساسية للاقتصاد عبر الأطلسي.
وشهدت التجارة الثنائية، نمواً مطرداً، مسجلة رقماً قياسياً بلغ 138 مليار دولار في عام 2024، حيث مثلت الصادرات إلى الولايات المتحدة نحو 10% من إجمالي الصادرات الإيطالية.
ويتعزز هذا النمو بفضل الاستثمار الأجنبي المباشر القوي في كلا البلدين، حيث نما الاستثمار الأجنبي المباشر الإيطالي في الولايات المتحدة إلى نحو 50 مليار دولار، ويتركز في قطاعات التصنيع والطاقة والغذاء وتكنولوجيا المعلومات.
وبصورة مماثلة، ظلت الاستثمارات الأميركية في إيطاليا أساسية، والتي تقدر بنحو 125 مليار دولار، إضافة إلى 10 مليارات دولار إضافية في عام 2024، وتساعد هذه الاستثمارات على دعم فرص العمل، والابتكارات، والبحث والتطوير على جانبي الأطلسي، وحتى وسط تراجع كبير في الاستثمارات المباشرة الأوروبية.
وبصورة عامة، تعمل الأسس الاقتصادية القوية، على تعزيز مصداقية إيطاليا الاستراتيجية، وتدعم سياسة خارجية أكثر فاعلية.
ويتمثل التحدي الرئيس الآن في ترجمة هذا الزخم إلى نمو اقتصادي مستدام طويل الأجل وفرص أكبر للمواطنين، من خلال تنويع الأسواق وتوسيع حضور إيطاليا في الاقتصادات الناشئة.
وتكمن قوة إيطاليا الأساسية، في ظل نظام دولي يتسم بتزايد التنافسية، في قدرتها على دمج السياسة الخارجية والأمن والتنمية الاقتصادية، في نهج استراتيجي متماسك. عن «ناشيونال إنترست»
نهج متماسك
عملت رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، باستمرار على تعزيز نهج متماسك، بدءاً من توجيه جانب من الإنفاق للدفاع عن أوكرانيا، وأوروبا، إلى العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ووطدت علاقتها الوثيقة مع رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، بهدف تعزيز مكانة روما جسراً بين طرفَي الأطلسي، ورقماً مهماً لتعزيز العمل الأوروبي، ما يدعم مرونة الشراكة عبر الأطلسي بشكل عام، ويقوي هذا النهج دور إيطاليا حليفاً موثوقاً به في حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وجسراً بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وداعماً لأجندة متماسكة عبر الأطلسي، وقدرة واشنطن على بسط الاستقرار في مناطق متعددة، من أوروبا الشرقية إلى الشرق الأوسط وإفريقيا.
• إيطاليا برزت، مجدداً، كفاعل مؤثر في الشرق الأوسط، وتبنت نهجاً عملياً يركز على خفض التصعيد والتنسيق عبر «الأطلسي».
• قيادة رئيسة الوزراء، جورجيا ميلوني، حققت استقراراً حكومياً له دور حاسم في تعزيز مكانة إيطاليا شريكاً موثوقاً، لاسيما في ظل حالة عدم اليقين التي تشهدها بعض العواصم الأوروبية الكبرى.
