القدس المحتلة – مع استمرار العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ نحو عامين، يشهد قطاع غزة عملية هدم وتدمير واسعة النطاق، لم تعد تقتصر على العمليات العسكرية المباشرة، بل دخلت على خطها شركات مقاولات مدنية ومجموعات استيطانية متطرفة جنّدها جيش الاحتلال الإسرائيلي خصيصا لهذه المهمة.

وكشفت صحيفة “هآرتس” العبرية عن ارتباط مجموعة “قوة أوريا” الاستيطانية بشركة مقاولات يديرها المستوطن بتسلئيل زيني، شقيق رئيس جهاز الأمن الداخلي “الشاباك” المعيّن مؤخرا، الجنرال في الاحتياط دافيد زيني.

وتعمل هذه المجموعات بشكل مستقل خارج الأطر العسكرية الرسمية، وتقول الصحيفة إنها تسعى إلى “تسوية غزة بالأرض”، مستخدمة جرافات ومعدات ثقيلة تعمل ليلا ونهارا مقابل مبالغ مالية ضخمة تمولها وزارة الأمن الإسرائيلية.

وظهر إعلان لتجنيد عناصر في المجموعات المستقلة العاملة بقطاع غزة، ينص على “مطلوب جرافة بوزن 40 طنا مع سائق للعمل بين أنقاض غزة، من الساعة 07:00 صباحا حتى 16:30 مساء، مقابل أجر يومي يبلغ 6 آلاف شيكل (1800 دولار)، على أن يتكفل الجيش الإسرائيلي بتوفير وقود الديزل”.

عمليات الهدم والتجريف تساعد الجيش على التنقل وتحريك المعدات العسكرية والدبابات في القطاع (الجيش الإسرائيلي)

قوة أوريا

وتبرز “قوة أوريا من بين هذه التشكيلات، وهي مجموعة استيطانية تضم ما بين 10–15 سائق جرافة من مستوطني الضفة الغربية، تعمل منذ عام إلى جانب الوحدات العسكرية داخل غزة.

ورغم أنها ليست جزءا من الجيش الإسرائيلي، إلا أنها تنفذ مهماتها من دون إشراف مباشر، حيث وصفها ضباط وجنود إسرائيليون بأنها تعمل بشكل عشوائي، وتشكل خطرا على حياة الجنود والمدنيين الفلسطينيين على حد سواء.

وتشير تقارير ميدانية إلى أن عناصر هذه المجموعات لا يلتزمون بتعليمات الأمان العسكرية، بل يذهبون أبعد من ذلك باستخدام مواطنين فلسطينيين كدروع بشرية، عبر إجبارهم على دخول أنفاق ومبان لفحص ما إذا كانت مفخخة قبل إدخال الجرافات.

وأفادت مصادر عسكرية إسرائيلية للصحيفة بأن مجموعة “قوة أوريا” ترتكب “تجاوزات خطيرة” في قطاع غزة، إذ تنفذ عمليات ميدانية حساسة بشكل مستقل ودون تنسيق أو موافقة من الجيش الإسرائيلي.

تكلفة عمليات الهدم بغزة تصل إلى نحو 100 مليون شيكل شهريا (28.5 مليون دولار)، من ميزانية وزارة الأمن الإسرائيلية..( الصور من تصوير المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي والتي عممها للاستعمال الحر لوسائل الإعلام)
تكلفة عمليات الهدم بغزة تصل إلى نحو 28.5 مليون دولار شهريا من ميزانية الأمن الإسرائيلية (الجيش الإسرائيلي)

إجراء محظور

وأوضحت المصادر أن عناصر المجموعة أدخلوا جنودا إلى أنفاق ومبانٍ خطرة، من دون مصادقة القوات الهندسية، وهو ما عرّضهم لمخاطر مباشرة. ففي إحدى الحوادث، أطلق مقاتل فلسطيني النار على سائق جرافة من “قوة أوريا” في خان يونس، ما أدى إلى إصابته.

وأشارت الصحيفة إلى أن “قوة أوريا” لا تبلغ الجيش الإسرائيلي بمكان عملها أو طبيعة نشاطها، بخلاف شركات المقاولات الكبرى التي تعمل تحت إشراف وزارة الأمن الإسرائيلية، ما يجعلها تتحرك بحرية تامة من دون رقابة أو مساءلة.

ونقلت “هآرتس” عن ضابط بالجيش الإسرائيلي قوله إن “أي سائق تراكتور تحول فجأة إلى مهندس ميداني يصدر توصيات للضباط بشأن دخول مبان أو أنفاق”، معتبرا أن هذا الوضع الخطير سيتسبب بمزيد من الخسائر البشرية.

والأخطر، بحسب مصادر عسكرية، أن المجموعة تستخدم مواطنين فلسطينيين كدروع بشرية، إذ يتم إجبارهم على ارتداء معدات واقية والدخول إلى أنفاق أو مبان للكشف عن ألغام أو مسلحين من فصائل المقاومة، وهو إجراء محظور بموجب قوانين الحرب.

وأشارت الصحيفة إلى أن الجيش الإسرائيلي نفسه تورّط أيضا في استخدام الفلسطينيين كدروع بشرية.

يتكفل الجيش الإسرائيلي توفير وقود الديزل للجرافات والمعدات الثقيلة التي تشرف على الهدم والتجريف.
الجيش الإسرائيلي تكفّل بتوفير وقود الديزل للجرافات والمعدات الثقيلة التي تشرف على الهدم والتجريف (الجيش الإسرائيلي)

شبيبة التلال

ويقول المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس”، يانيف كوبوفيتش إن تزايد الاعتماد على هذه المجموعات المستقلة يرتبط بأزمة نقص الآليات الثقيلة لدى الجيش الإسرائيلي، إذ تراجعت أعداد الجرافات المدرعة المتاحة من 20 لكل لواء مع بداية الحرب إلى أقل من 10 اليوم، وغالبا من دون سائقين مؤهلين.

لذا “يلجأ قادة الألوية والكتائب” إلى الاستعانة بـ”قوة أوريا” ومجموعات مشابهة، من دون الحاجة لإبلاغ قيادة الفرق العسكرية أو انتظار الدعم الهندسي.

وأشار إلى أن عملية تجنيد هذه المجموعات تتم عبر الشبكات الاجتماعية، خصوصا من المستوطنات، ويشكل عناصر “شبيبة التلال” المتطرفة جزءا كبيرا منهم.

ورغم إدراك الجيش لخطورة هذا الوضع، أكد ضابط في سلاح الهندسة أن “الجميع يفضلون التجاهل”، مبررا ذلك بالنقص الكبير في القوات النظامية القادرة على تنفيذ المهمات المطلوبة في غزة.

تقاطع المصالح

اقتصاديا، أشارت صحيفة “ذا ماركر” إلى أن تكلفة هذه العمليات تصل إلى نحو 100 مليون شيكل شهريا (28.5 مليون دولار)، إذ تحصل شركات المقاولات على أجر يومي يبلغ 1800 دولار لكل جرافة ومشغلها، أي ما يعادل ضعف السعر المتعارف عليه في إسرائيل.

وتشير التقديرات إلى أن عملية الهدم خلفت ما بين 60 و70 مليون طن من الركام، وأن إزالته قد يستغرق من 8 إلى 12 عاما بتكلفة قد تصل إلى مليار دولار.

ولفت إلى أن هذا التقاطع بين المصالح الأمنية والعائلية والتجارية، يعكس خطورة تحول الحرب في غزة إلى سوق مفتوح للمصالح الاقتصادية والسياسية.

تدمير ممنهج

لم تعد عملية الهدم في غزة، يقول مراسل صحيفة “ذا ماركر” حاجاي عميت ” مجرد جزء من الحرب”، بل تحولت إلى منظومة متكاملة تجمع بين الاستيطان، الاقتصاد، والسياسة الأمنية، تديرها شركات ومجموعات خارجة عن الإطار العسكري المنظم، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة.

وبحسب عميت، فإن ما يجري اليوم من عمليات تدمير ممنهجة، يكشف أن مسار الحرب لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يتعداه إلى مشروع تدميري طويل المدى، يجعل من غزة مختبرا للتجريف المادي والإنساني معا، بحيث أن مرحلة إزالة الأنقاض ستكون التحدي الأكبر والأكثر كلفة، بل ربما تفوق تكلفة الهدم نفسه.

ويصف عميت تدمير غزة بأنه أضخم مشروع هندسي في تاريخ إسرائيل والأكثر كلفة، ويُنفذ بمئات المعدات الثقيلة واستهلاك هائل للوقود والخرسانة والتربة، ويتم تنفيذ هذا المشروع الهائل من دون وجود تعليمات رسمية واضحة من القيادة العليا.

وبينما يرى الجيش الإسرائيلي في هذه العملية ضرورة عسكرية، يقول عميت إنها تجري بلا تخطيط إستراتيجي معلن، لكن مهاما تُنفَّذ بدقة على الأرض، لتترك غزة أمام مشهد غير مسبوق من الخراب والأنقاض التي قد تتحول يوما ما إلى مورد اقتصادي عبر إعادة التدوير أو بيع الحديد الخردة الكامن تحت الركام.

شاركها.