مع غروب الشمس فوق خليج المكسيك، اقتربت طائرة حكومية أميركية من عين إعصار «ميلتون» الذي كان قد تشكل حديثاً، وبدأت على الفور بث تقارير حية عن الإعصار بعد تلقي أولى بيانات الرادار عبر الأقمار الاصطناعية.
وخلال 24 ساعة فقط تحول «ميلتون» إلى إعصار من الفئة الخامسة بسرعة رياح بلغت 180 ميلاً في الساعة، ليصبح الأعنف في الخليج منذ نحو عقدين، لكن رغم قوته المدمرة، لم يكن مفاجئاً، فقد أطلقت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في أميركا، تحذيرات مبكرة، ما أتاح وقتاً كافياً لإجلاء السكان من المناطق المهددة على ساحل فلوريدا.
لكن هذه التحذيرات تزامنت مع قرارات حكومية مثيرة للقلق، مع توقع موسم أعاصير نشط آخر حتى نهاية العام الجاري، حيث تعمل إدارة الرئيس، دونالد ترامب، عبر ما يعرف بـ«هيئة الكفاءة الحكومية» على خفض تمويل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، التي تضم الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية وصائدي الأعاصير والعديد من البرامج الأخرى الضرورية للمتنبئين بالأعاصير.
أعاصير مفاجئة
وبغياب أدوات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، التي تجري 6.3 مليارات عملية رصد جوي يومياً، قد تصبح الأعاصير التي ترصد بشكل روتيني اليوم أعاصير مفاجئة مدمرة غداً.
ورغم أن كلفة خدمات الأرصاد الجوية لكل مواطن أميركي لا تتجاوز أربعة دولارات سنوياً، فإن العائد الاستثماري منها يبلغ 8000% وفقاً لتقديرات عام 2024.
ومن السخرية أن يتم الترويج لتقليص دعم تلك الإدارة الحيوية باعتباره خطوة نحو «الكفاءة الاقتصادية»، بينما تعجز القطاعات الخاصة عن تقديم خدمات مماثلة.
أضرار جسيمة
وفي غضون ثلاثة أشهر ألحقت إدارة الكفاءة الحكومية أضراراً جسيمة بالهيئة الوطنية للأرصاد الجوية التي تدير 122 مكتباً محلياً للتنبؤات الجوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بما يعادل أكثر من عقد من خسارة قوتها العاملة. وقد فقدت بعض المكاتب 60% من موظفيها، بمن فيهم فرق الإدارة بأكملها.
وتعد مكاتب خدمات الطقس والأرصاد الجوية التي تعمل على مدار 24 ساعة يومياً، سبعة أيام أسبوعياً، وطوال العام، مصدر جميع التحذيرات المناخية التي يتلقاها الأميركيون عن طريق الهاتف، والتلفزيون، والراديو، حيث إنه من دون هذه التحذيرات والبيانات لا يمكن لبرامج البث الجوي المحلية وتطبيقات الطقس الخاصة أن تعمل.
وأصدرت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في ظل معاناة عشرات مكاتب التنبؤات الجوية المحلية من أجل الحفاظ على استمرارية عملياتها على مدار الساعة، نداء استغاثة أخيراً، مطالبة الموظفين المتبقين البقاء في مناصبهم مؤقتاً لإنقاذ ما تبقى من شبكة الإنذار الحرجة في البلاد.
ويعاني ما يقرب من نصف مكاتب التنبؤات الجوية المحلية نقصاً حاداً في الموظفين، بمعدل شاغر يبلغ 20% أو أكثر، ويتعطل العديد منها لجزء من اليوم، ما يزيد من خطر عدم رصد الأحوال الجوية وبقاء السكان دون حماية أو تحذير.
«بالونات» الطقس
ويعد تغيير الموظفين أحدث خطوة من وكالة جوية تكافح من أجل البقاء، وعادة ما تطلق «بالونات» الطقس – وهي ركيزة أساسية لجمع البيانات لأكثر من 60 عاماً – مرتين يومياً من 100 موقع في جميع أنحاء أميركا الشمالية ومنطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، لكن في الآونة الأخيرة تم تقليص أو تعليق بعض رحلات تلك «البالونات» حتى يتمكن عدد محدود من الموظفين من الاهتمام بأولويات أخرى.
وأثبتت «بالونات» الطقس دقتها في التنبؤات الجوية بشكل ملحوظ حتى في زمن الأقمار الاصطناعية، لدرجة أن عمليات الإطلاق التي تجرى مرتين يومياً يضاف إليها عادةً ما يصل إلى أربع عمليات إطلاق يومياً قبل تهديدات الأعاصير الكبرى.
وتزيد «البالونات» الإضافية من ثقة التنبؤات الجوية، وتتيح اتخاذ قرارات حاسمة التوقيت، مثل أوامر الإخلاء في وقت أبكر.
ومع اقتراب موسم أعاصير جديد، انخفضت عمليات إطلاق «البالونات» بنسبة 15 إلى 20% على مستوى البلاد، ما يُلقي بالبلاد في تجربة محفوفة بالمخاطر لم يرغب أحد في خوضها.
تدمير عقود من التقدم
ويرتبط البحث والتنبؤ الجوي ارتباطاً وثيقاً داخل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، واقترح البيت الأبيض في وثائق الميزانية الجديدة، الصادرة الجمعة الماضية، إلغاء جناح الأبحاث التابع للإدارة الوطنية للمحيطات، وهو مكتب أبحاث المحيطات والغلاف الجوي الذي يقدم دعماً بالغ الأهمية لصائدي الأعاصير.
ويمكن أن يؤدي إلغاء مكتب أبحاث المحيطات والغلاف الجوي إلى تدمير عقود من التقدم في مجال التنبؤ بالأعاصير، وهو إحدى قصص النجاح الباهر في علوم التنبؤ، وبات الآن مصير الجناح البحثي للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في أيدي الكونغرس. عن «نيويورك تايمز»
تنبؤ موثوق
قبل 30 عاماً لم يكن بإمكان خبراء الأرصاد الجوية رصد الأعاصير إلا بعد تشكلها، وبمجرد تشكلها كنا محظوظين إذا ما تنبأنا باحتمالية وصولها إلى اليابسة قبل يومين أو ثلاثة أيام.
لكن أصبحت نماذج التنبؤ لدينا – التي طورها العلماء وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم والفائقة السرعة- تتنبأ بشكل روتيني وموثوق بالأعاصير، وأحياناً قبل أسبوع أو أكثر من أول هبوب للسحب. وبعد يومين أو ثلاثة أيام نستطيع تقليص توقعات الأعاصير إلى حدود مقاطعة أو مقاطعتين.
. 6.3 مليارات عملية رصد جوي تجريها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي يومياً.
. رغم أن كلفة خدمات الأرصاد الجوية لكل مواطن أميركي لا تتجاوز 4 دولارات سنوياً، فإن العائد الاستثماري منها يبلغ 8000%.