أنقرة- أعلنت أنقرة، الأربعاء الماضي، إطلاق أول برنامج وطني لبناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، تحت اسم “نوكدن”، في مسعى لتعزيز قدراتها الدفاعية وتوسيع نطاق نفوذها البحري بعيد المدى.
وجاء الإعلان خلال “ندوة الأنظمة البحرية الـ12” التي استضافتها إسطنبول، حيث كشف الأميرال تيمور يلماز، قائد أسطول الغواصات في القوات البحرية التركية، عن تفاصيل المشروع واصفا إياه بأنه “نقلة نوعية” في تحديث الأسطول البحري التركي.
ويُنظر إلى البرنامج على أنه بوابة دخول تركيا نادي الدول المشغّلة للغواصات النووية، في توقيت تتسارع فيه التوترات الإقليمية في شرق المتوسط والبحر الأحمر.
أهداف المشروع
أكد الأميرال يلماز، أن تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية لم يعد خيارا، بل بات ضرورة إستراتيجية لحماية المصالح العليا لتركيا في محيطها البحري المتوسع. وأوضح أنه يستهدف تعزيز قدرة الردع وتوسيع نطاق العمليات البحرية، إضافة إلى دعم التشكيلات القتالية البحرية التي تقودها حاملات الطائرات الوطنية، وفي مقدمتها السفينة “أناضول”.
وعدّد -في كلمته- الأسباب التي دفعت إلى اعتماد هذه الخطوة، مشيرا إلى أن حماية مناطق السيادة البحرية، لا سيما في شرق المتوسط، وتعزيز الردع البعيد المدى، وتأمين مرافقة الغواصات لحاملات الطائرات ضمن مهام الانتشار البحري، تشكل أعمدة هذا التوجه الجديد.
ويرى مراقبون أن الإعلان الرسمي عن مشروع “نوكدن” ليس سوى تتويج لخطة إستراتيجية طويلة المدى صاغتها المؤسسة العسكرية التركية، بهدف نقل الأسطول البحري من مرحلة الاعتماد على الغواصات التقليدية إلى دخول نادي الدول المالكة لتقنية الدفع النووي، والذي يقتصر اليوم على قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والهند.
بحسب المعلومات الرسمية، لا يزال برنامج الغواصات النووية في مرحلته التمهيدية، حيث باشرت الفرق الفنية والعسكرية إجراء دراسات جدوى وهندسة أولية لتحديد نوع المفاعل النووي الذي سيُستخدم في الغواصات. ووفقا لتصريحات الأميرال يلماز، تجرى التقييمات حاليا لاختيار التكنولوجيا الأنسب من حيث الكفاءة والحجم والملاءمة التشغيلية.
وتشير تحليلات فنية -نُشرت في دوريات عسكرية متخصصة- إلى اهتمام خاص بخيار المفاعلات الملحية المنصهرة “إم أس أر”، التي تتميز بصغر الحجم وكفاءة الأداء في البيئات البحرية، مقارنة بالمفاعلات التقليدية.
ورغم الإعلان الرسمي عن البرنامج، لم تحدد حتى الآن مواعيد زمنية دقيقة لبناء أول غواصة نووية أو موعد دخولها الخدمة، كما لم يكشف عن العدد المستهدف من الغواصات.
مشروع مكمّل
ويرجح خبراء في قطاع الصناعات الدفاعية أن تستغرق مراحل التطوير أكثر من عقد، استنادا إلى تجارب سابقة، مثل برنامج “ميلدن” التركي للغواصات التقليدية الذي أُطلق عام 2019، ومن المتوقع أن تبدأ أولى غواصاته العمل فعليا بحلول عام 2031.
وبناء على ذلك، يقدّر أن الغواصات النووية قد تبدأ دخول الخدمة الفعلية في النصف الثاني من ثلاثينيات هذا القرن، ما لم تتسارع وتيرة التطوير أو التمويل بصورة استثنائية.
وفي الوقت ذاته، أوضح المسؤولون الأتراك أن مشروع “نوكدن” لا يعد بديلا لبرنامج الغواصات التقليدية الجاري تنفيذه حاليا تحت اسم “ميلدن”، بل يُنظر إليه كخط تكنولوجي موازٍ ومكمل في مسار تحديث الأسطول البحري.
ويتوقع أن تمنح تكنولوجيا الدفع النووي الغواصات التركية القادمة قدرة بقاء شبه غير محدودة تحت الماء، ما يعفيها من الحاجة المتكررة للصعود لشحن البطاريات كما في الغواصات التقليدية، ويوفر لها إمكانية تنفيذ عمليات طويلة الأمد في مياه بعيدة عن الشواطئ التركية بسرية وفعالية عالية.
لا يُنظر إلى برنامج “نوكدن” على أنه مجرد مشروع عسكري بحت، بل يُعد -بحسب الأميرال يلماز- مبادرة وطنية شاملة ذات طابع تنموي، تستهدف دمج القدرات الصناعية والبحثية والأكاديمية في إطار مشروع إستراتيجي واحد.
ويشارك فيه عدد كبير من مؤسسات القطاع الدفاعي إلى جانب جامعات مرموقة ومراكز أبحاث وطنية، ضمن خطة تهدف إلى توطين المعرفة التقنية وتطوير بنية تحتية علمية متقدمة قادرة على دعم الصناعة البحرية النووية.
وتشمل مجالات التطوير الأساسية:
- تصميم وبناء الهيكل الغاطس.
- أنظمة الدفع ونقل الطاقة.
- المفاعلات النووية الصغيرة.
- منصات الاتصالات الفضائية.
- أنظمة القتال تحت السطح.
- تطوير منصات مأهولة وغير مأهولة للعمليات الطويلة في الأعماق.
نقطة تحوّل
ترى الباحثة في شؤون الأمن والدفاع، مروة كاراكوتش، أن مشروع “نوكدن” يشكل نقطة تحوّل إستراتيجية في العقيدة البحرية لتركيا، إذ ينقلها من مفهوم الدفاع الساحلي التقليدي إلى تبني عقيدة “الأسطول ذي المياه الزرقاء” القادر على العمل في أعالي البحار وفرض النفوذ بعيدا عن الشواطئ الوطنية.
وفي حديثها للجزيرة نت، توضح كاراكوتش أن هذا التحول لا يعبّر فقط عن تطور تقني في بنية القوات البحرية، بل يعكس تغييرا عميقا في رؤية أنقرة لمكانتها الجيوسياسية، وطبيعة الدور الذي تسعى للعبه على الساحة الدولية.
وترى الباحثة، أن الغواصات النووية تمنح تركيا ميزة إستراتيجية تتمثل في القدرة على الانتشار البحري طويل الأمد من دون الحاجة إلى قواعد دعم قريبة، وهو ما يعزز من حضور أنقرة العسكري في مسارح بحرية إستراتيجية مثل البحر الأحمر والمحيط الهندي، ويمنحها قدرة أكبر على حماية مصالحها التجارية والأمنية.
من جانبه، يرى المحلل السياسي جنك سراج أوغلو، أن إعلان تركيا عن إطلاق هذا البرنامج يحمل رسائل جيوسياسية متعددة، تتجاوز نطاق التحديث العسكري إلى إعادة تشكيل موازين القوى البحرية الإقليمية والدولية، خاصة في هذا التوقيت الحساس.
ويوضح للجزيرة نت، أن الرسالة الأولى موجهة للغرب وتتمثل في رغبة تركيا بالتحرر النسبي من المظلة الغربية التقليدية، وبناء قوة بحرية إستراتيجية مستقلة.
أما الرسالة الثانية، فيراها الباحث مرتبطة مباشرة بالتنافس في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يشير إلى أن “الإعلان التركي يأتي في وقت تحتدم فيه النزاعات حول مصادر الطاقة البحرية، وهو ما يمنح المشروع بعدا ردعيا واضحا تجاه خصوم إقليميين، مثل اليونان وقبرص”.
ويخلص إلى أنه إذا نجحت أنقرة في تنفيذ هذا المشروع، فإنها تضع نفسها فعليا على عتبة نادي النخبة في مجال الغواصات النووية، وهو ما سيغير قواعد اللعبة في المنطقة البحرية.