يُعدّ قرار المحكمة العليا الأميركية، القاضي بمنع القضاة من عرقلة الإجراءات الحكومية بسرعة، وإن كانت غير قانونية، دليلاً على تآكل الضوابط المفروضة على السلطة التنفيذية في ظل سعي الرئيس، دونالد ترامب، لتعزيز سلطاته، وسيسمح القرار، الصادر يوم الجمعة الماضي، بأغلبية ستة مقابل ثلاثة أعضاء، بتفعيل الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، والذي يهدف إلى إنهاء حق المواطنة بالولادة، في بعض أنحاء البلاد، على الرغم من أن جميع المحاكم التي نظرت في هذا التوجيه قضت بعدم دستوريته.
وهذا يعني أنه يمكن حرمان بعض الأطفال المولودين لمهاجرين غير موثقين أو زائرين أجانب لا يحملون بطاقات إقامة دائمة، من وثائق تثبت جنسيتهم، مثل أرقام الضمان الاجتماعي.
لكن تقليص السلطة القضائية كقوة موازنة محتملة لممارسة السلطة الرئاسية، يحمل تداعيات تتجاوز بكثير مسألة المواطنة، فالمحكمة العليا تُقيد فعلياً قضاة المحاكم الأدنى، في وقت يحاولون الرد على سيل متواصل من أوامر وسياسات السلطة التنفيذية العدوانية.
وشكّلت قدرة المحاكم الجزئية على منع تنفيذ إجراءات إدارة ترامب بسرعة، في المقام الأول، رقابةً فعّالة نادرة على رئاسته الثانية. لكن عموماً، تتسم وتيرة العملية القضائية بالبطء، وتواجه صعوبة في مواكبتها، وقد يصعب التراجع عن الإجراءات التي تم اتخاذها بالفعل، قبل أن تُصدر المحكمة حكماً بعدم قانونيتها، مثل إغلاق وكالة، أو إرسال مهاجرين إلى سجن أجنبي دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
تاريخياً، تمرّ السلطة الرئاسية بفترات صعود وهبوط، مع ما يترتب على ذلك من آثار جوهرية على سير نظام الضوابط والتوازنات التي تُميز الديمقراطية الأميركية، لكنها عموماً ظلت في مسار تصاعدي منذ منتصف القرن الـ20، وقد أدى نمو الدولة الإدارية داخل السلطة التنفيذية، والجيوش النظامية الضخمة التي بقيت في مواقعها مع انتقال الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة، إلى ظهور ما أطلق عليه المؤرخ آرثر شليزنجر الابن «الرئاسة الإمبراطورية».
وتضاءلت السلطة الرئاسية في سبعينات القرن الماضي، في الفترة التي شملت فضيحة «ووترغيت» ونهاية حرب فيتنام، وأثبتت المحاكم استعدادها للحكم ضد الرئاسة، كما حدث عندما أجبرت المحكمة العليا الرئيس ريتشارد نيكسون على تسليم تسجيلات مكتبه البيضاوي، وعمل أعضاء كلا الحزبين معاً لسن قوانين تفرض قيوداً جديدة أو مُعادة على ممارسة السلطة التنفيذية.
لكن العصر الحالي مختلف تماماً، إذ بدأت السلطة الرئاسية بالنمو مجدداً في عهد رونالد ريغان، وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، والآن يرفض ترامب معايير ضبط النفس، ويدفع باتجاه إلغاء الضوابط المفروضة على سلطته، والقضاء على جيوب الاستقلال داخل الحكومة، بينما نادراً ما يواجه مقاومة من المحكمة العليا التي أعاد تشكيلها، والكونغرس الذي يسيطر عليه حزب تابع له.
ويأتي قرار الأغلبية المحافظة في المحكمة العليا، في وقت تآكلت أيضاً قيود أخرى على سلطة ترامب، فقد سحقت الإدارة عمليات التدقيق الداخلية في السلطة التنفيذية، بما في ذلك إقالة المفتشين العامين، وتهميش مكتب المستشار القانوني بوزارة العدل، الذي كان يضع عادة حواجز الحماية للسياسات المقترحة والأوامر التنفيذية.
ولم يبذل الكونغرس، تحت سيطرة زملاء ترامب الجمهوريين، جهداً يُذكر للدفاع عن دوره الدستوري في مواجهة تجاوزاته، ويشمل ذلك تفكيك الوكالات التي قال الكونغرس إنها ستبقى قائمة بموجب القانون، وفصل موظفي الخدمة المدنية، في تحدٍّ للقيود القانونية، ورفض إنفاق الأموال التي أذن بها المشرعون وخصصوها.
في الأسبوع الماضي، عندما قصف ترامب مواقع نووية إيرانية من جانب واحد، من دون الحصول على إذن مسبق من الكونغرس أو الادعاء بوجود تهديد وشيك، تقدّم النائب الجمهوري، توماس ماسي، من «كنتاكي»، ليصف هذه الخطوة بأنها غير دستورية، لأن الكونغرس هو الذي يملك سلطة إعلان الحرب.
وردّ ترامب بشراسة، مُعلناً دعمه لمنافس في الانتخابات التمهيدية في محاولة لإنهاء المسيرة السياسية للنائب الجمهوري ماسي، في تحذير واضح لأيّ «جمهوري» آخر يُفكّر في الاعتراض على أفعاله، وقد صرّحت السيناتور، ليزا موركوفسكي، وهي جمهورية من «ألاسكا»، لناخبيها أخيراً بقولها «جميعنا خائفون» من ترامب.
ولكن في حين أنّ المستفيد المباشر من حكم المحكمة العليا هو ترامب، فإنّ القرار يَعِد أيضاً بتحرير خلفائه مما كان اتجاهاً مُتنامياً لتدخل المحاكم المحلية في صنع السياسات الرئاسية.
ففي قضية الجنسية، جرّد الحكم قضاة المحاكم المحلية من سلطة إصدار ما يُسمى الأوامر القضائية الشاملة، وهي أداةٌ استخدمتها المحاكم الأدنى لمنع الإجراءات الحكومية التي تعتبرها على الأرجح غير قانونية، من أن تُطبّق على الصعيد الوطني، مع استمرار الطعون القانونية عليها.
وازدادت وتيرة هذه الأوامر بشكل حاد في السنوات الأخيرة، ما أزعج رؤساء كلا الحزبين، وقال القضاة إنه من الآن فصاعداً لن تمنح المحاكم الأدنى إعفاء قضائياً إلا للمدعين الذين رفعوا دعاوى قضائية، وهذا يعني أن إدارة ترامب قد تبدأ بتطبيق أمره المتعلق بمنح الجنسية بالولادة في الولايات الـ28 التي لم تطعن فيه، ما لم يمتلك الآباء والأمهات القدرة والجرأة لرفع دعاوى قضائية خاصة بهم.
ولم يتضح بعد النطاق الكامل للحكم، نظراً إلى أنه لن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد 30 يوماً، ومن المحتمل أن يُوسّع المدعون وقضاة المحاكم الابتدائية نطاق استخدام الدعاوى الجماعية كبديل عن الأوامر ذات الأثر الوطني.
وكتبت القاضية، آمي كوني باريت، في رأي الأغلبية، أن هذا الخيار سيكون مناسباً طالما التزموا بالحدود الإجرائية لقضايا الدعاوى الجماعية، ومع ذلك، وفي آراء متفقة، حذّر عضوان رئيسان آخران من الكتلة المحافظة، هما القاضيان كلارنس توماس، وصمويل أ. أليتو الابن، قضاة المحاكم الابتدائية من خفض معايير استخدام وسائل بديلة لإصدار أوامر شاملة في محاولة للالتفاف على الحكم.
وكتب القاضي أليتو أنه «لا ينبغي للمحاكم الجزئية أن تنظر إلى قرار اليوم على أنه دعوة للتصديق على الدعاوى الجماعية على مستوى البلاد دون الالتزام الدقيق بصرامة القواعد القانونية».
بدورها، قالت القاضية توماس إنه «إذا لم يلتزم القضاة بتوجيهات هذه المحكمة ويتصرفوا ضمن الحدود، فإن هذه المحكمة ستظل ملزمة بالتدخل».
وفي خطوة نادرة تشير إلى معارضة شديدة على نحو غير معتاد، قرأت القاضية، سونيا سوتومايور، بصوت عالٍ ملخصاً لرأيها المخالف من على منصة المحكمة، ووصفت الحكم بأنه هجوم خطر على النظام القانوني الأميركي، وقالت إنه يُعرّض الحقوق الدستورية للخطر، لكل من ليس طرفاً في الدعاوى القضائية التي تدافع عنها، وكتبت سوتومايور: «اليوم، التهديد مُوجّه ضد حق المواطنة بالولادة، غداً، قد تحاول إدارة أخرى مصادرة الأسلحة النارية من المواطنين الملتزمين بالقانون، أو منع أتباع ديانات معينة من التجمع للعبادة».
وتضيف: «ترى الأغلبية أنه في غياب دعاوى جماعية مُرهقة، لا يمكن للمحاكم أن تُصدر حظراً كاملاً حتى على هذه السياسات غير القانونية بشكل واضح، إلا إذا كان ذلك ضرورياً لمنح الأطراف الرسمية إعفاءً كاملاً».
وتشير القاضية سوتومايور أيضاً إلى إن الإدارة لم تطلب وقفاً كاملاً للأوامر القضائية المتعددة ضد أمرها لأنها تعلم أنها غير قانونية بشكل واضح، واتهمت الأغلبية باللعب بهذه اللعبة المكشوفة. وهي، مثل القاضيين الآخرين اللذين انضما إلى معارضتها، مُعينة من قبل الحزب الديمقراطي.
وجميع القضاة الستة الذين صوّتوا لإنهاء الأوامر القضائية الشاملة كانوا مُعينين من قبل الحزب الجمهوري، بمن فيهم ثلاثة عُيّنوا في مناصبهم في المحكمة العليا خلال ولاية ترامب الأولى، وقد أصدرت الأغلبية الساحقة نفسها أحكاماً عززت سلطته في مجالات أخرى.
وفي العام الماضي منحت الكتلة ترامب حصانة افتراضية من الملاحقة الجنائية عن أفعاله الرسمية كرئيس، وأكد الحكم الصادر عن رئيس القضاة، جون جي روبرتس الابن، أن الرؤساء يتمتعون بحصانة مطلقة عن أي شيء يفعلونه بوزارة العدل وإشرافها على سلطة إنفاذ القانون الفيدرالية. عن «نيويورك تايمز»
التحقيق مع الخصوم السياسيين
الأغلبية الجمهورية في الكونغرس تدعم تعزيز سلطات ترامب. أ.ف.ب
عزز الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نهجه الذي تبناه خلال ولايته الأولى، عندما ضغط بشكل غير رسمي على المدعين العامين للتحقيق مع خصومه السياسيين، وأصدر أوامر رسمية بالتدقيق في أشخاص محددين لا يروقون له، محطماً بذلك معيار ما بعد فضيحة «ووترغيت»، المتمثل في استقلالية وزارة العدل عن السيطرة السياسية للبيت الأبيض.
كما أيدت الأغلبية الساحقة حيلة ترامب في طرد الأعضاء الديمقراطيين في لجان الوكالات المستقلة قبل انتهاء ولايتهم، وأكد القضاة المحافظون استعدادهم لإلغاء سابقة راسخة تسمح للكونغرس بإنشاء وكالات متخصصة تُدار من قِبل لجان لا يجوز للرؤساء فصل أعضائها تعسفياً.