مع اقتراب انعقاد قمة دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، غداً، في لاهاي، دعت مجلة «فورين بوليسي» مجموعة من المفكرين الباحثين للتحدث عن توقعاتهم بشأن مستقبل الحلف.
وقال مدير دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد «أميركان إنتربرايز»، كوري شاك: «قبل شهرين، اقترحتُ أن يدّعي الأمين العام لحلف (الناتو)، مارك روته، أنه أصيب بنوبة قلبية ويُؤجل القمة في لاهاي، لأنني اعتقد أن عداء فريق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاه أقرب أصدقاء الولايات المتحدة قد بلغ حداً من الشدة، بحيث قد يؤدي ذلك إلى قمة كارثية».
وأضاف: «قائمة الأدلة طويلة، إذ هدد ترامب بالتخلي عن أي حليف لا يحقق أهداف الإنفاق الدفاعي، ودعا إلى ضم كندا وغرينلاند، وأهان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي، وقيّد تقديم المعلومات الاستخباراتية والأسلحة إلى كييف».
وتابع: «تشمل الأدلة أيضاً خطاب نائبه، جي دي فانس، في ميونيخ، ودعمه الصريح للمتطرفين السياسيين الأوروبيين، وتردد واشنطن في تعيين ضابط أميركي لقيادة (الناتو)، ورفض الإدارة إدانة حرب روسيا في أوكرانيا، وخشية أن يستغل ترامب القمة للإعلان عن الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من أوروبا، ما سيُمثل دعوة مفتوحة لروسيا لتوسيع نطاق نفوذها، وربما مهاجمة حليف في (الناتو)».
واستدرك شاك: «لكنني استهنت بميزة استراتيجية أساسية للحلف، وهي قدرته على إيجاد سبل لتجاوز الخلافات العميقة بين أعضائه، ففي نهاية المطاف، هذا هو التحالف الذي وضع تقرير هارميل عام 1967 (تقرير بشأن المهام المستقبلية للحلف)، والذي وضع بمبادرة من وزير الخارجية البلجيكي آنذاك بيير هارميل في وقت كان فيه وجود هذا الكيان موضع تساؤل، والذي دعا إلى تهديد الكتلة السوفييتية من خلال الردع وخفض التوترات، وهو أيضاً التحالف الذي اتخذ قرار المسار المزدوج عام 1979 بنشر أسلحة نووية جديدة، وفي الوقت نفسه دعا إلى سحبها».
وأضاف شاك: «لقد برع أعضاء (الناتو) في إيجاد سبل لجعل الأمور المتعارضة حقيقية في آن واحد، وذلك من أجل استيعاب مشكلات اللحظة، ومشكلة اللحظة هي تهديد واشنطن بالتخلي عن التزاماتها في الوقت الذي تخشى فيه أوروبا من أنها لا تستطيع أن تكون آمنة من دون الولايات المتحدة».
وتابع: «مع اقتراب القمة، يبدو أن حلف (الناتو) قد وجد طريقة لتجنب أسوأ النتائج، كما ظل يفعل دائماً، ومن المرجح أن يُعلن ترامب خلال القمة عن تخفيضات في القوات الأميركية، لكن الخبر الرئيس سيكون موافقة جميع الحلفاء الـ32 على زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وبحسب التفاصيل الدقيقة، سيُخصص 3.5% فقط للأسلحة والقوات، بينما ستُخصص نسبة 1.5% المتبقية للبنية التحتية، لكن البنية التحتية مهمة وشعبية».
وتابع: «بالمناسبة، لكي تصل الولايات المتحدة إلى هدف 3.5% الجديد فقط، سيتطلب ذلك إضافة 380 مليار دولار إلى ميزانية الدفاع الأميركية السنوية، لذا، سيُبحر حلفاء (الناتو) في هذه المياه المضطربة، ويرضون بمطالب ترامب، مع التقليل من شأن الخطر الاستراتيجي الجديد الذي يُضيفه أي تخفيض آخر في القوات الأميركية».
تقسيم العالم
بدورها، قالت الباحثة غير المقيمة في مؤسسة «بروكينجز»، أنجيلا ستينت: «أدان البيان الصادر عن قمة (الناتو) في واشنطن عام 2024 الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا، وأكد بوضوح أن روسيا لاتزال تُمثل التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء»، كما اتفق الحلفاء على إعداد استراتيجية جديدة للتعامل مع روسيا لقمتهم المقبلة في عام 2025، تأخذ في الحسبان التهديدات الأمنية الجديدة، إلا أنه بعد انتخاب ترامب، تم التخلي عن العمل بهذه الاستراتيجية الجديدة، إذ أدرك كبار مسؤولي (الناتو) استحالة التوصل إلى توافق بين واشنطن وأوروبا حول كيفية التعامل مع روسيا».
وأضافت: «يُصر ترامب على إعادة ضبط العلاقات مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتحقيق ما لم ينجح أي من أسلافه في تحقيقه منذ عام 1991، وهو بناء علاقة مثمرة مع الكرملين. وعلى عكس الرؤساء الأميركيين السابقين، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، فإن فهم ترامب لمحركات السياسة العالمية يُشبه فهم بوتين: فالعالم مُقسّم إلى مناطق نفوذ، تسيطر على كل منها قوة عظمى ذات سيادة مطلقة، بينما تتمتع القوى الأصغر بسيادة محدودة فقط، وتعثرت مفاوضات إنهاء حرب روسيا مع أوكرانيا لأن بوتين لا ينوي إنهاء الحرب في أي وقت قريب، لكن البيت الأبيض يواصل سعيه لتحسين العلاقات مع الكرملين، بغض النظر عن استمرار العدوان الروسي من عدمه».
وتابعت: «خلال قمة (الناتو) المقبلة، يتمثل الهدف الرئيس في تجنب أي توترات كبيرة عبر الأطلسي، سيُعقد اجتماع واحد فقط للقادة بدلاً من الاجتماعات العديدة المعتادة، ويبدو أن روسيا وأوكرانيا لن تكونا موضوع نقاش تقريباً، ولن يحضر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، اجتماع القمة الرئيس».
وأوضحت ستينت: «إذا نجحت إعادة ضبط العلاقات بين ترامب وبوتين، وانتهت عزلة الولايات المتحدة عن روسيا مع استمرار الحرب، فسيواجه (الناتو) تحدياً خطراً، وباستثناء عدد قليل من أعضاء (الناتو)، مثل المجر وسلوفاكيا، الذين يُطالبون بإنهاء الدعم لأوكرانيا وإعادة التواصل مع روسيا، يبقى أعضاء (الناتو) الأوروبيون متحدين في إدانتهم لحرب روسيا ودعمهم لمساعدة أوكرانيا، إنهم ينظرون إلى روسيا كتهديد رئيس للأمن الأوروبي، وذلك بسبب تصميم بوتين على مراجعة تسوية ما بعد الحرب الباردة، وإعادة ترسيخ هيمنة موسكو على كل من الدول السوفييتية السابقة والأعضاء السابقين في حلف وارسو».
ورأت ستينت أنه إذا أوقفت إدارة ترامب دعمها العسكري والاقتصادي والاستخباراتي لأوكرانيا، وأعادت التعامل مع روسيا بشكل كامل، فستكون هذه هي المرة الأولى منذ تأسيس (الناتو) التي تتباين فيها تصورات التهديد الأوروبي والأميركي تجاه روسيا بشكل كبير.
وأضافت: «التحدي الرئيس الذي يواجه أعضاء (الناتو) الأوروبيين (وكندا وتركيا) في المستقبل، سيكون وضع استراتيجية فعالة لردع أي عدوان روسي مستقبلي، حتى لو عارض أقوى عضو في الحلف ضرورة احتواء روسيا، وقد أبدت الدول غير الأعضاء في (الناتو)، في الأشهر القليلة الماضية، عزمها على زيادة الإنفاق على الدفاع، وتولي مسؤولية أكبر للدفاع عن أوكرانيا، ومع ذلك فإن الحفاظ على هذه الالتزامات في مواجهة إحجام الولايات المتحدة عن معاقبة روسيا سيظل مهمة شاقة على مدى السنوات الثلاث المقبلة على الأقل».
أوروبا ضعيفة
أما الزميل المشارك في مجال القوة السيبرانية والصراع المستقبلي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فرانز ستيفان جادي، فقال: «اعتماد أوروبا المستمر على القدرات العسكرية الأميركية ليس عيباً عرضياً، بل هو سمة أساسية من سمات البنية الأمنية عبر الأطلسي».
وأضاف: «منذ تأسيس (الناتو) في أواخر أربعينات القرن الماضي، لعبت الولايات المتحدة دور المُدمج الرئيس، أي الرابط الاستراتيجي الذي يحافظ على تماسك الدفاع الجماعي الأوروبي. وقد أدى هذا الدور الأميركي، بصفته العمود الفقري الاستراتيجي والعملياتي والتكنولوجي لـ(الناتو)، إلى خلق تبعية عميقة ومعقدة، ما جعل الجهود الأوروبية لتعزيز دفاعاتها محدودة بطبيعتها، ما لم يُعالج هذا الدعم الأساسي».
وتابع: «يشير النقاش حول ميزانيات الدفاع، والذي سيُطرح بشكل بارز في قمة هذا الأسبوع، إلى أن أوروبا تستطيع الدفاع عن نفسها ببساطة من خلال تجنيد المزيد من الجنود، وتكديس الطائرات والدبابات والمدفعية والطائرات بدون طيار وغيرها من المعدات، ومع ذلك فإن إحصاء القوات والأسلحة ممارسة خاطئة».
الممكنات الاستراتيجية
وأوضح: «يكمن التحدي الحقيقي في أن أوروبا تفتقر إلى القدرات الأساسية اللازمة لدمج العمليات القتالية واستدامتها على مدى فترة طويلة، أي ما يُسمى (المُمكّنات الاستراتيجية) التي تُوفرها الولايات المتحدة بالكامل تقريباً»، لافتاً إلى أن هذه العوامل المُمكّنة تشمل الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، بما في ذلك الأقمار الاصطناعية والرادارات، وقدرات الضرب الدقيق لضرب الأهداف عالية القيمة، وأنظمة الدفاع الجوي بعيدة المدى لاعتراض وتحييد التهديدات المعقدة، وبنية تحتية متينة للقيادة والتحكم والاتصالات، وهو أمر حيوي للتنسيق واتخاذ القرار».
وأشار إلى أن معظم القيادات العسكرية الأوروبية تفتقر إلى الخبرة الواسعة في قيادة التشكيلات البرية الكبيرة، وهي مهارة بالغة الأهمية للانتشار السريع والفعالية العملياتية في سيناريوهات الأزمات.
وتابع: «تستمر قائمة النواقص العسكرية، فالقوات الجوية الأوروبية غير قادرة عموماً على تنفيذ عمليات معقدة مثل قمع الدفاعات الجوية للعدو، أو توجيه ضربات عميقة ضد أهداف عالية القيمة أو محصنة في مؤخرة العدو.
ولاتزال القوات البحرية الأوروبية، على الرغم من بعض التحسينات الأخيرة، محدودة في الحرب المضادة للغواصات، وهو عنصر حاسم في مواجهة خصم مثل روسيا، ويؤكد عدم القدرة على تنفيذ هذه المهام اعتماد أوروبا على الأصول الأميركية والثغرات التي تحتاج إلى معالجة عاجلة».
وأضاف: «تجلّت هذه العيوب – التي تفاقمت بنقص خطير مماثل في الجدية الاستراتيجية والإرادة السياسية – بشكل صارخ خلال النقاش حول احتمال نشر قوات برية أوروبية لتأمين وقف إطلاق نار افتراضي في أوكرانيا».
وقال: «عجز الدول المشاركة في المناقشات عن نشر لواءين أو ثلاثة ألوية آلية بشكل جماعي – يضم كلٌ منها ما بين 3000 و5000 جندي تقريباً – يُظهر القيود المنهجية لأوروبا، على الرغم من الكميات الكبيرة من المعدات والقوات في القارة»، مؤكداً أن «هذه العيوب تُقوّض بشكل مباشر مصداقية خطط الدفاع الإقليمي لحلف (الناتو)، وقدرته على الردع، لاسيما في دول البلطيق، حيث يُتوقع من دول (الناتو) الأكبر حجماً، مثل ألمانيا، أن تنشر قوات موثوقة قادرة على ردع العدوان الروسي». عن «فورين بوليسي»
القدرة على الردع
قال الزميل المشارك في مجال القوة السيبرانية والصراع المستقبلي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فرانز ستيفان جادي: «إذا لم تستطع أوروبا نشر قواتها والحفاظ عليها بشكل مستقل من دون دعم أميركي، فإنّ قدرة الحلف على الردع ستتعرّض للخطر بشكل كبير، حيث يبدو انسحاب الولايات المتحدة واقعياً بشكل متزايد».
وأضاف: «قد تُشكّل السنوات القليلة المقبلة بداية لمرحلة من الضعف الخطر، ولكي يضمن الحلفاء الأوروبيون قدرتهم على نشر قوات قادرة على القتال عند الحاجة، من الضروري للغاية أن يسرّعوا الاستثمارات الآن وليس غداً، في تلك العناصر المُمكّنة الأساسية التي وفرتها الولايات المتحدة إلى حد كبير».