يمكن اختزال رؤية أوروبا، المتمثلة بوضع نهاية للحرب في أوكرانيا، بأنها «السلام عبر القوة»، لكن السؤال المطروح الآن مفاده ما إذا كان ذلك مجرد رؤية فقط أم أنها حقيقة.
واعتبرت أوروبا، منذ سنوات، الحرب بين أوكرانيا وروسيا بمثابة خطر وجودي على أمنها، لهذا قامت بتزويد أوكرانيا بالمساعدات العسكرية والمالية، على أمل تحويل وتعزيز قوتها لتصبح قادرة على حماية نفسها.
لكن هذا التحويل لطالما كان دائماً هدفاً يمكن تحقيقه على المدى البعيد، ويشير استعجال إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتوصل إلى اتفاقية سلام مع روسيا، إلى أن أوروبا تواجه أوقاتاً حرجة، فهل هي مستعدة لتوفير القوة لضمان الأمن اللازم؟ وهل سيتخلى الأوروبيون عن أسلوبهم الحذر ويقدمون القوات العسكرية لأوكرانيا كضمانة أمنية، حتى في ظل مخاطر فقدان الأرواح ومواجهة الغضب السياسي في الداخل؟
قال الباحث في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية، رافائيل لوس: «إنه سؤال جوهري»، وأضاف السفير الفرنسي السابق في واشنطن، جيرارد أراود، من خلال مكالمة هاتفية: «الأوروبيون لا يريدون التضحية بحياتهم من أجل الأوكرانيين»، وأضاف: «يعتقد الكثير من الأوروبيين العاديين أن أوكرانيا بعيدة عنهم، كما أن أوروبا قدمت الكثير والكافي لأوكرانيا».
ومنذ بداية الحرب، كانت السياسة الأوروبية متحفظة، وخائفة للغاية من الرد الذي ربما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويظهرون الأوروبيون الكثير من الأنانية، على الرغم من أن الأوكرانيين يشكلون خط الدفاع الأول لقارة أوروبا.
وفرضت أوروبا عقوبات اقتصادية، خلال السنوات الثلاث الماضية، أدت إلى إضعاف شراء الطاقة الروسية، وساعدت أوكرانيا عن طريق مدها بمعدات الدفاع.
لكن القادة الأوروبيين لطالما تم اتهامهم بالتقصير، وأنهم لا يقدمون ما يكفي من المساعدات والأسلحة لأوكرانيا، كما أنهم لا يفعلون الكثير لمنع التحايل على العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، والأموال الموجودة في البنوك الأوروبية التي تساعد روسيا.
ولايزالون ينوون تكرار الأمر ذاته، ففي الأسبوع الماضي، ولدى هبوط طائرة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في بروكسل، كي يلتقي مع حلفائه، ثم ركوب الطائرة متجهاً إلى واشنطن، أعلن قادة الاتحاد الأوروبي إصرارهم على مواصلة الضغط الاقتصادي، وإصدار الحزمة الـ19 من العقوبات على روسيا في الشهر المقبل.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، إن «التحالفات ستساعد أوكرانيا لتصبح (قنفذاً فولاذياً)، في إشارة إلى إنشاء مجمع التصنيع الدفاعي في الدولة».
وتكمن فكرة هذا النهج في عدد من حزم العقوبات، وليس هناك سبب للاعتقاد بأن جولة أخرى من العقوبات الاقتصادية يمكن أن تثني روسيا عن احتلال مزيد من الأراضي الأوكرانية، وسيساعد تعزيز صناعة الأسلحة الأوكرانية المحلية على احتواء الوضع على المدى البعيد، لكنه سيستغرق سنوات، وهو غير كافٍ لإجبار موسكو على إنهاء حربها خلال وقت قصير.
وهمس بعض الأوروبيين في الـ18 من أغسطس الجاري، خلال لقاء في البيت الأبيض، في أذن الرئيس ترامب بأنهم مستعدون لنشر قوات في أوكرانيا، ولكن في الواقع لاتزال هذه الخطط غير جاهزة، حيث لايزال النقاش مستمراً حول نوعية الجنود الذين سيتم نشرهم، وعددهم، ومن أي دولة سيتم نشرهم.
وكانت هناك عاصفة من اللقاءات منذ عودة وفد القادة الأوروبيين من واشنطن، بهدف تحديد مستقبل الضمانات الأمنية المستقبلية لأوكرانيا.
وكانت فرنسا والمملكة المتحدة في مقدمة ما أطلق عليه «ائتلاف الراغبين»، وهو مجموعة من 30 دولة تشارك في مراقبة أي اتفاق سلام مستقبلي بين روسيا وأوكرانيا، حيث يطرح عدد قليل منها إمكانية نشر القوات على الأرض، وتواجه الفكرة الكثير من التحديات، ولا يشعر أي من القوى الكبرى بأنه قوي بما فيه الكفاية لمواجهة إشارات الكرملين بالتدخل قبل توقيع الكرملين على اتفاق وقف إطلاق النار، ويتوقع معظم الدول الأوروبية شكلاً من التدخل الأميركي في هذا الصراع.
وأكدت كل من باريس ولندن أن نهاية الأعمال العدائية شرط ضروري، في حين أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي كان أول من اقترح فكرة نشر جنود أوروبا على الأرض، قال إنه سيتم نشر القوات الأوروبية في «المواقع الاستراتيجية» في أوكرانيا، وليس في جميع خطوط التماس مع روسيا.
ومنذ الاجتماع في البيت الأبيض، أكد رئيس حكومة أستونيا أن بلاده مستعدة «لنشر جنودها على الأرض»، وأعربت الدنمارك والنرويج عن اهتمامهما سابقاً بنشر فوج من الجنود في حال تم التوصل إلى سلام، وأعربت المملكة المتحدة التي تقود «القوة الاستكشافية المشتركة»، وهي مجموعة غير تابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، تضم 10 دول يمكن نشرها لدعم «الناتو»، أنها مستعدة للمشاركة أيضاً.
وأبدت فنلندا، وهي جزء من القوة الاستكشافية، عدم رغبتها في نشر جنودها، لكنها تريد إبقاء جنودها على حدودها مع روسيا، التي يبلغ طولها نحو 1340 كيلومتراً، ورفضت بولندا إرسال جنودها لحماية أوكرانيا.
وحتى دول مثل ألمانيا وإيطاليا بدت غير مستعدة لنشر قواتها، وقال مدير مكتب بروكسل الخبير في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن، اندري هارتل: «لم يتم التفكير على نحو جيد في فكرة إرسال الجنود، ولا أعتقد أن البرلمان الألماني سيوافق عليها».
ولطالما تحدثت ألمانيا عن نقص الجنود لديها، وقالت إنها تكافح من أجل الوفاء بالتزاماتها إزاء حلف «الناتو»، وكون المرء جندياً ليس له أي دلالات مجيدة في ألمانيا، حيث لاتزال النزعة السلمية باقية، والعديد من الناس يعارضون الحرب.
لكن السبب الرئيس الذي جعل ألمانيا تعارض إرسال جنودها إلى مناطق الحرب هو غياب نظيرتها الولايات المتحدة التي يمكن أن توفر قوة عسكرية كبيرة في حال تدهور الأمر مع روسيا.
واقترحت إيطاليا ضماناً شبيهاً بضمان حلف «الناتو»، يتضمن الولايات المتحدة، لكنها اقترحت نشر القوات داخل أوكرانيا، أو مشاركة الحلفاء في القتال الدائر. وتتضمن الفكرة تقديم بند للأمن الجماعي، يتم تفعيله فقط إذا بدأت روسيا القتال، وقال وكيل الوزارة الإيطالي، جيوفانباتستا فازولاري، للصحافة الإيطالية: «سيكون ذلك مقبولاً أكثر من قبل الرئيس الروسي بوتين».
وقال السياسي البريطاني من أصول بلغارية، جوليان بوبوف، إنه متأكد تماماً من أن الجنود الأوروبيين لن يتم نشرهم في ميدان المعركة في أوكرانيا، لكنه أضاف: «إن ذلك لم يكن مطلوباً».
وأشار بوبوف إلى أن استخدام الطائرات بدون طيار (درونز) أدى إلى تغير النتائج في ميدان المعركة في أوكرانيا، مضيفاً: «تتغير طبيعة الحرب والتقنيات التي يتم استخدامها فيها على نحو متسارع، لدرجة أن الأمر لم يعد يتعلق بإرسال الدبابات والطائرات والجنود، وإنما باستخدام التقنيات المتطورة للغاية».
وقد ينظر الأوروبيون إلى اتفاقية يمكن أن تؤدي إلى نهاية الحرب في أوكرانيا، لكنها تشجع روسيا على الهجوم على دول أوروبية شرقية أخرى، وهو ما يكون أكثر سوءاً من وضع نهاية للحرب، لكنه سيكون من الواضح بصورة متزايدة أنه سيكون لديهم قلة من الأفكار حول كيفية تحقيق اتفاقية جيدة قبل أن يفقد ترامب صبره.
وفي كل الأحوال، فإن أوكرانيا ستتحول إلى دولة في خط المواجهة لأوروبا، وسيظل مصيرها غير واضح، وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تدرس تقديم الدعم المستمر بالمعلومات الاستخباراتية والدعم الجوي، إلا أن مشاركة واشنطن في هذه الحرب ستظل أمراً مشكوكاً فيه في ظل وجود رئيس متقلب المزاج.
انشال فوهرا *
* كاتبة في «فورين بوليسي»
. في كل الأحوال فإن أوكرانيا ستتحول إلى دولة في خط المواجهة لأوروبا، وسيظل مصيرها غير واضح.