لايزال البولندي سيزاري بروزكو يتذكر تدريبات الدفاع المدني التي كان يتلقاها في أيام دراسته في العهد الشيوعي، والتي كانت تتضمن قراءة الخرائط، ومهارات البقاء على قيد الحياة، والشعور بأن خطر الحرب حقيقي وموجود دائماً.
وقال بروزكو، البالغ من العمر 60 عاماً، وهو يجدد تلك المهارات في قاعدة عسكرية خارج العاصمة وارسو، في صباح يوم سبت بارد: «نشأ جيلي في ظل تلك التهديدات، ولم يكن هناك داعٍ لشرح أهمية ذلك».
وقام بروزكو، مع عشرات المدنيين البولنديين الآخرين، بجولة في ملجأ من القنابل، وارتدى أقنعة واقية من الغازات، وتدرب على إحداث شرارات من حجر الصوان لإشعال النار.
وكان التدريب، الذي صُمم لتعزيز مرونة المدنيين، جزءاً من برنامج جديد يهدف إلى تدريب 400 ألف مواطن بولندي بحلول عام 2027.
وهذا البرنامج الطوعي مفتوح للجميع، من طلاب المدارس إلى المتقاعدين.
وقال وزير الدفاع البولندي، فلاديسلاف كوسينياك – كاميش، عند إطلاق البرنامج، الشهر الماضي: «نحن نعيش في أخطر الأوقات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويجب أن يمتلك كل واحد منا المهارات والمعرفة والمهارات العملية للتعامل مع الأزمات».
موجة من الهجمات
هناك وعي شديد في بولندا بأن موقعها الجغرافي في قلب أوروبا جعلها تاريخياً عرضة للهجمات.
وقد لفتت الحرب الروسية على أوكرانيا المجاورة في عام 2022 الانتباه، وزاد من حالة القلق هذا العام تحليق الطائرات بدون طيار في المجال الجوي البولندي وموجة من الهجمات التخريبية المرتبطة بالاستخبارات الروسية.
كما تم تفجير خط سكة حديد الشهر الماضي، وادعت السلطات البولندية أن روسيا نظمت الهجوم، وكان يُقصد منه إحداث إصابات، وقد أدى كل ذلك إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن القومي.
ووافقت الحكومة على مشروع ميزانية للعام المقبل يرفع الإنفاق الدفاعي إلى 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بكثير من جميع دول حلف شمال الأطلسي «الناتو» الأخرى تقريباً.
ويجب أن تكون المباني الجديدة مزودة بملاجئ للحماية من القنابل، وقد بدأ برنامج لإعادة تجهيز الملاجئ القديمة التي أصبحت في حالة سيئة.
وبدأت أعمال البناء في «الدرع الشرقي»، وهو سياج من الأسلاك الشائكة الذي سيمتد على طول حدود البلاد مع بيلاروسيا ومقاطعة كالينينغراد الروسية.
أوقات صعبة
في قاعدة عمليات متقدمة على بعد بضعة كيلومترات من الحدود البولندية مع بيلاروسيا، قال قائد لواء الفرسان المدرع التاسع البولندي، العميد رومان برودلو، إن حرب روسيا على أوكرانيا قد غيرت تماماً الصورة الأمنية لبولندا.
وأضاف في مقابلة أُجريت معه في مكتبه الميداني، الواقع داخل حاوية في القاعدة العسكرية: «لقد ولّت الأوقات الهادئة للأسف، ونعيش في أوقات صعبة، في أوقات شديدة التقلب»، متابعاً: «أقرأ الصحف، وأستمع إلى الأخبار، وأرى التحليلات التي تجريها مختلف أجهزة الاستخبارات، والتي تقول إننا في غضون سنة أو سنتين أو خمس سنوات سنواجه حرباً شاملة من روسيا، لا أعرف، آمل ألّا يحدث ذلك».
وأشار الضابط البولندي إلى أنه انضم إلى الجيش في عام 1996 لأنه كان ميكانيكياً مدرباً و«يحب الدبابات».
وبعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الخدمة، والتي شملت دورات مع القوات المتحالفة في العراق وأفغانستان، اعترف برودلو أنه في حرب ضد الطائرات بدون طيار أو تهديدات التخريب، سيتعين مراجعة تدريبه في الحرب التقليدية.
وقال: «لقد خضع الجميع هنا أيضاً للتدريب من أجل إعدادنا لأنواع جديدة من المهام، أعتقد أن روسيا ستضغط علينا بطريقة هجينة، دون الوصول إلى عتبة الحرب، لتجعلنا نتعب، ولكن دون الوصول إلى مستوى الاشتباك المباشر».
مناورات حربية
روى النقيب كارول فرانكوفسكي، الذي يعمل في مجال الاتصالات بلواء الفرسان المدرع، كيف أمضى خلال الصيف الماضي شهراً في تدريبات «سيبر جانكشن» السنوية لحلف «الناتو» في ألمانيا، حيث شارك في مناورات حربية مع جنود من أكثر من 10 بلدان.
وقال: «تضمّن التدريب سيناريو هجوم هجين من مهاجم غير محدد، ما تسبب في انهيار القانون والنظام وفرض الأحكام العرفية».
وأضاف فرانكوفسكي: «كانت مهمتي هي الاتصال بالسكان المحليين أثناء الأزمة، كان هناك أشخاص يلعبون دور رئيس الشرطة والصحافيين المحليين ومواطنين آخرين، وكان علينا أن نتصرف كما لو كان هناك قانون عسكري». ووفقاً لبرودلو وفرانكوفسكي، فإن إحدى التكتيكات الهجينة التي تستخدمها روسيا هي تشجيع «الهجرة غير الشرعية» على حدود أوروبا.
ويتمثل الدور الحالي للواء الفرسان المدرع، في مساعدة حرس الحدود على اكتشاف الأشخاص الذين يحاولون العبور إلى بولندا، وبالتالي إلى منطقة «شنغن»، من بيلاروسيا. عن «الغارديان»
محاولات للعبور
تُنبه أجهزة الاستشعار المثبتة على طول الجدار الحدودي بين بولندا وبيلاروسيا، الجنود البولنديين إلى أي محاولات للعبور.
وفي اليوم السابق لزيارة فريق من صحيفة «الغارديان» البريطانية، للمنطقة الحدودية، قال الجنود إنهم ألقوا القبض على رجل من أفغانستان، ومن المرجح أن تتم إعادته إلى بيلاروسيا.
وقال النقيب كارول فرانكوفسكي، الذي يعمل في مجال الاتصالات بلواء الفرسان المدرع: «من أجل حماية بلدنا، هذا أمر ضروري، نحن لا نعرف مَن هذا الأفغاني، ربما يكون جاسوساً أو شخصاً يريد تدمير بلدنا من الداخل، وربما يكون جاسوساً روسيّاً».
واستخدمت الحكومة القومية السابقة في بولندا، فكرة أن روسيا وبيلاروسيا تستخدمان الهجرة سلاحاً كأساس لقمع عنيف للمهاجرين، الذين عبروا الحدود منذ بدء الأزمة في عام 2020، ومن المثير للدهشة أنه منذ تولي التحالف التقدمي بقيادة دونالد تاسك السلطة قبل عامين، لم يتغير شيء يُذكر.
سكان جاهزون للقتال
كورنيليا بريزينسكا. من المصدر
إضافة إلى الجدار الحدودي الذي شيدته الحكومة البولندية السابقة على طول معظم الحدود مع بيلاروسيا، سيشمل «الدرع الشرقي» الجديد خنادق وتحصينات على طول حدود بيلاروسيا ومقاطعة كالينينغراد الروسية، لإنشاء حاجز ضد أي حرب محتملة.
لكن إذا اندلعت الحرب، فمن المرجح ألّا تكون من النوع التقليدي الذي تقتحم فيه الدبابات الحدود.
وسيشمل «الدرع» أيضاً أبراج «جي بي إس» ومنشآت متقدمة أخرى، للحماية من غارات الطائرات بدون طيار.
في غولداب، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها نحو 15 ألف نسمة وتقع على بعد بضعة كيلومترات من الحدود مع كالينينغراد، كان السكان المحليون في الماضي متفائلين بوجود روسيا على عتبة بابهم.
وقال أحد السكان المحليين، بيوتر بارتوشوك (45 عاماً): «التهديد يؤثر على طريقة تفكيرك، لكن بصراحة سأكون أكثر قلقاً لو كنت أعيش في وارسو، من الناحية الاستراتيجية، لن يستهدفونا هنا».
وأضاف: «في أوائل العقد الأول من القرن الـ21، كان السكان المحليون يعبرون الحدود بانتظام».
وتابع بارتوشوك: «كان البولنديون يملؤون خزانات سياراتهم بالبنزين الروسي الأرخص ثمناً في كالينينغراد، بينما كان الروس يقومون برحلات تسوق أو سياحة في بولندا، لكن الآن الحدود مغلقة، والمباني التي كانت تضم مقاهي ومكاتب صرافة أصبحت مهجورة ومغطاة بالعشب الطويل».
أما كورنيليا بريزينسكا، البالغة من العمر 15 عاماً، والتي تعيش في البلدة نفسها، فإنها تأمل بالانضمام إلى الجيش وتدرس في المسار العسكري في الكلية، وقالت: «روسيا تشكل تهديداً بالتأكيد، لكنه ليس تهديداً كبيراً، لأننا في حلف (الناتو)، ونحن محميون، ولا أعتقد أنهم سيهاجموننا فجأة، كما فعلوا مع أوكرانيا».
ومع ذلك، إذا تعرضت البلاد للهجوم، تؤكد بريزينسكا أنها لن تتردد في القتال، وقالت المراهقة البولندية: «سأذهب إلى الجبهة، أنا أحب بولندا حقاً، هذا ليس كلاماً أقوله بخفة، لن أتخلى عن بلدي، سأدافع عنها».
معاملة وحشية
قالت العضو في تحالف «غروبا غرانيكا»، ألكسندرا كرزانوفسكا، إن التركيز على التهديد الذي تشكله روسيا، دفع العديد من الليبراليين – الذين كانوا في السابق غاضبين من المعاملة الوحشية لطالبي اللجوء على الحدود – إلى تأييد سياسات الحكومة الصارمة.
وأضافت: «لم تعد الدراما، والمأساة التي يعيشها أولئك الذين يأتون إلى هنا بحثاً عن الحماية، تهمان الناس».
وأكدت كرزانوفسكا أن الأمن القومي مهم، لكنها وصفت التركيز على المهاجرين باعتبارهم تهديداً بأنه «خطاب عنصري يميني متطرف» لا يستند إلى حقائق.
وأصبحت كرزانوفسكا – ونشطاء آخرون في تحالف «غروبا غرانيكا»، الذي يضم نشطاء في مجال حقوق الإنسان – أصواتاً منفردة تدافع عن حقوق الإنسان لأولئك الذين يحاولون العبور.
. تحليق الطائرات بدون طيار في المجال الجوي البولندي، وموجة من الهجمات الروسية، أثارا قلق وارسو.
. الحكومة وافقت على مشروع ميزانية يرفع الإنفاق الدفاعي إلى 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
