يوم الخميس الماضي، حققت المحكمة العليا البرازيلية ما فشل الكونغرس الأميركي والمحاكم الفيدرالية في القيام به على نحو مأساوي، حيث جلبت الرئيس السابق الذي اعتدى على الديمقراطية إلى القضاء.
وصوتت المحكمة العليا في حكم تاريخي بأربعة أصوات مقابل صوت واحد لتجريم الرئيس السابق جايير بولسونارو بالتآمر ضد الديمقراطية، ومحاولة القيام بانقلاب في عام 2022، إثر خسارته في الانتخابات.
وتظهر هذه التطورات تبايناً صارخاً مع الولايات المتحدة، حيث حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الإطاحة بالانتخابات، لكن بدلاً من إرساله إلى السجن، تمت إعادته إلى البيت الأبيض. ووصف ترامب، الذي لعله يدرك قوة هذا التناقض بينه وبين البرازيل، الحكم على بولسونارو بأنه «أمر فظيع للغاية».
لكن ترامب لم يكتفِ بانتقاد جهود البرازيل لحماية ديمقراطيتها، وإنما عاقبها، حيث فرضت إدارته رسوماً جمركية هائلة بلغت 50% على معظم الصادرات البرازيلية، وفرضت عقوبات على عدد من المسؤولين الحكوميين وقضاة المحكمة العليا.
عقوبات قاسية
ووجهت أميركا عقوبات قاسية للغاية إلى القاضي ألكسندر دي مورايس، الذي أشرف على القضية، بموجب قانون «ماغنيتسكي» العالمي، الذي يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على الجهات والأفراد الذين ينتهكون حقوق الإنسان أو يرتكبون الكثير من الفساد.
وكانت هذه خطوة غير مسبوقة، فقد استهدفت الإدارة قاضياً في المحكمة العليا في دولة ديمقراطية، بعقوبات كان يتم فرضها سابقاً على الجهات التي تنتهك حقوق الإنسان.
وباختصار، فقد سعت إدارة ترامب لاستخدام عقوبات التعرفة الجمركية لترهيب البرازيليين وإجبارهم على تقويض نظامهم القانوني، وتدمير ديمقراطيتهم. وبصورة عملية، تعمل إدارة ترامب على معاقبة البرازيليين لأنهم قاموا بشيء كان ينبغي على الأميركيين القيام به سابقاً، لكنهم فشلوا في ذلك، أي لمحاسبة رئيس سابق لأنه حاول تقويض الانتخابات.
تحديات متزايدة
وتواجه الأنظمة الديمقراطية المعاصرة تحديات متزايدة من سياسيين، وحركات غير ليبرالية فازت بالسلطة في انتخابات، ثم سعت إلى تقويض النظام الدستوري.
وخلال العقد الماضي، واجهت كل من الولايات المتحدة والبرازيل تهديدات غير ليبرالية.
وكان التشابه بينهما لافتاً للنظر، إذ إن كلتا الدولتين انتخبت رئيساً ذا نزعات استبدادية، وبعد خسارتهما للانتخابات التالية قاما بمهاجمة المؤسسات الديمقراطية. وانتهك ترامب القاعدة الأساسية للديمقراطية عندما رفض قبول خسارته في انتخابات 2020، وحاول الإطاحة بنتائج انتخابات جرت في السادس من يناير 2021.
وتم انتخاب السياسي اليميني بولسونارو في عام 2018، حيث كان يقلد الكثير من أساليب ترامب.
وبالنظر إلى أن استطلاعات الرأي في عام 2022، أظهرته متأخراً عن منافسه، مع اقتراب الانتخابات، بدأ بولسونارو يطرح التساؤلات عن نزاهة العملية الانتخابية. وندد مراراً وتكراراً بالسلطات الانتخابية، وطالب باستبعاد نظام التصويت الإلكتروني البرازيلي. وادعى أن الطريقة الوحيدة التي تجعله يخسر الانتخابات ستكون عن طريق الخداع، مشيراً إلى أن انتصار مرشح المعارضة غير شرعي.
وبعد خسارته، بفارق ضئيل، أمام لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، رفض بولسونارو الاعتراف بالهزيمة، وفي الثامن من يناير 2023، اقتحم الآلاف من اتباعه مبنى الكونغرس البرازيلي، والمحكمة العليا، والقصر الجمهوري. وعلى الرغم من أن هذه الأحداث تزامنت مع اقتحام أنصار ترامب للكونغرس في السادس من يناير، إلا أن هجمات بولسونارو ضد الديمقراطية تجاوزت ما فعله أنصار ترامب.
التدخل العسكري
واستناداً إلى تاريخ البرازيل في التدخل العسكري في السياسة، شكّل بولسونارو، وهو نقيب سابق في الجيش، تحالفاً مع عناصر من القوات المسلحة، لافتقاره إلى قاعدة حزبية أو تشريعية قوية، ولهذا اعتمد على الجيش للحصول على الدعم.
ويشير كثير من الأدلة التي تم كشفها عن طريق الشرطة الفيدرالية، إلى أن حلفاءه العسكريين تآمروا للإطاحة بالانتخابات، ومنع تنصيب الرئيس المنتخب دا سيلفا. ويبدو أن المؤامرة كانت تنطوي على اغتيال دا سيلفا، ونائبه، جيرالد الكمين. ولحسن الطالع، رفضت قيادة الجيش القيام بالانقلاب.
وقام الرؤساء المنتخبون في كل من الولايات المتحدة والبرازيل بمهاجمة المؤسسات الديمقراطية، سعياً منهم للبقاء في السلطة بعد خسارتهم في محاولة إعادة انتخابهم. وقد فشلت كلتا محاولتي الاستيلاء.
لكن هنا يكمن الاختلاف التاريخي، إذ لم يفعل الأميركيون الكثير من أجل حماية نظامهم الديمقراطي، من القائد الذي حاول تقويضه. وفشلت الضوابط الدستورية التي تفتخر بها البلاد في محاسبة ترامب على محاولته قلب نتائج انتخابات 2020. وعلى الرغم من تصويت مجلس النواب على عزل ترامب في يناير 2021، إلا أن مجلس الشيوخ، الذي كان بإمكانه إدانته ومنعه من الترشح للرئاسة مرة أخرى، صوت على تبرئته.
وتباطأت وزارة العدل في مقاضاة ترامب لدوره في إثارة تمرد 6 يناير، وانتظرت ما يقرب من عامين، قبل تعيين محقق خاص. وجرى توجيه لائحة اتهام إلى ترامب في أغسطس 2023، لكن المحكمة العليا، التي تصرفت دون شعور بالاستعجال، سمحت بتأجيل القضية.
وقضت المحكمة في يوليو 2024 بأن الرؤساء يتمتعون بحصانة شاملة، ما عرقل قضية الحكومة ضد ترامب. ورشح الحزب الجمهوري ترامب لإعادة انتخابه في عام 2024، على الرغم من سلوكه الاستبدادي الصريح. وعندما فاز في الانتخابات، تم إسقاط جميع القضايا الفيدرالية المرفوعة ضده.
تكاليف باهظة
وانطوت هذه الإخفاقات السياسية على تكاليف باهظة، إذ إن الفترة الثانية من حكم ترامب كانت شمولية على نحو واضح للغاية، وحولت المؤسسات الحكومية إلى سلاح واستخدمتها لمعاقبة كل ما تسول له نفسه انتقاد الحكم، وهددت المنافسين، والتنمر على القطاع الخاص، وعلى وسائل الإعلام، وعلى شركات القانون، والجامعات، والمجتمع المدني. وقامت هذه الإدارة بالالتفاف على القانون، وتحدي الدستور. وعلى الرغم من وجود هذه الإدارة لنحو تسعة أشهر، يمكن القول إن الولايات المتحدة قد تجاوزت بالفعل الخط الفاصل نحو الاستبداد.
لكن البرازيل كانت تنحو طريقاً مختلفاً، فنظراً إلى أن المسؤولين البرازيليين عاشوا في ظل دكتاتورية عسكرية، فقد أدركوا التهديد الذي يواجه نظامهم الديمقراطي منذ بداية فترة بولسونارو الرئاسية. وشعر العديد من القضاة وقادة الكونغرس بالحاجة إلى حماية المؤسسات الديمقراطية في بلادهم.
وبخلاف الولايات المتحدة، عملت المؤسسات في البرازيلية، بقوة ونشاط، وحتى الآن لمحاسبة الرئيس السابق بولسونارو، لأنه حاول تقويض الانتخابات. وكانت فعالية المؤسسات البرازيلية بالتحديد هي التي وضعت البلاد في مرمى نيران إدارة ترامب. ولجأ بولسونارو إلى ترامب بعد استنفاد الخيارات في البرازيل. وقام إدواردو، نجل بولسونارو، بالضغط على البيت الأبيض لأشهر، من أجل إقناع إدارة ترامب بالتدخل من أجل والده.
وفي محاولتها إجبار السلطات البرازيلية كي تتخلى عن محاكمة بولسونارو، قامت إدارة ترامب بتغيير أربعة عقود من السياسة إزاء أميركا اللاتينية، فبعد نهاية الحرب الباردة، كانت الإدارات الأميركية مصممة على الدفاع عن الديمقراطية في أميركا اللاتينية.
وكانت جهود إدارة الرئيس السابق جو بايدن لمنع محاولة قيام بولسونارو بالانقلاب دليلاً واضحاً على هذه السياسة، لكنها باتت الآن تتحرك نحو استحضار تدخلاتها المعادية للديمقراطية، والتي كانت تمارسها قبل الحرب الباردة، ولهذا تحاول الولايات المتحدة تقويض واحد من أهم الأنظمة الديمقراطية في أميركا اللاتينية.
وعلى الرغم من عيوبه، يظل النظام الديمقراطي في البرازيل أفضل، وصحياً أكثر من الديمقراطية الأميركية. وفشلت الولايات المتحدة في أداء وظيفتها، فبدلاً من تقويض جهود البرازيل في حماية نظامها الديمقراطي، كان الأجدى أن تتعلم منها. عن «نيويورك تايمز»
• إدارة ترامب سعت لاستخدام التعرفة الجمركية لترهيب البرازيليين وتدمير ديمقراطيتهم.
• على الرغم من عيوبه، يظل النظام الديمقراطي في البرازيل أفضل، وصحياً أكثر من الديمقراطية الأميركية.