في قلب غابة الأمازون المطيرة، يستعد العمال لحفر نفق عمودي بعرض مترو الأنفاق على عمق نصف ميل تحت الأرض، ويفعلون ذلك ليس بحثاً عن الذهب أو النفط، في مساحة عشبية بين أراضي السكان الأصليين، بل من أجل الأسمدة، وهي شيء يمكن القول إنه لا يقل أهمية عن الذهب والنفط بالنسبة لهذه الدولة الزراعية الشاسعة.
ومع اشتداد التوترات التجارية العالمية، حلّت البرازيل محل حصة متزايدة من الصادرات الزراعية الأميركية إلى الصين، التي تجنبت فول الصويا الأميركي رداً على الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب. وأدى فرض إدارة ترامب رسوماً جمركية بنسبة 50% على البرازيل، هذا العام، إلى زيادة المخاطر على الصناعة الزراعية في البلاد، ومن ثم إيجاد طرق لدعم أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية خلال الحرب التجارية.
لكن الأسمدة لاتزال نقطة ضعف البرازيل، وتستورد البرازيل نحو 90% من المغذيات التي تحتاج إليها من النيتروجين والفوسفور والبوتاس، بشكل أساسي من روسيا، التي جعلت الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية، الإمدادات غير مستقرة.
ويكمن الحل في أكبر غابة مطيرة في العالم. وتستثمر شركة التعدين «بوتاس البرازيل»، التي تتخذ من تورونتو مقراً لها 2.5 مليار دولار لبناء منجم تحت الأرض بالقرب من بلدة «أوتازيس»، على بعد بضعة أميال من ضفاف نهر «ماديرا»، للاستفادة من حوض الأمازون الواسع، أحد أكبر الأحواض في العالم.
ومن المقرر أن يبدأ الإنتاج في منجم «أوتازيس» التابع للشركة، والذي يقدر بـ2.4 مليون طن سنوياً، في عام 2030.
وسيتم تخصيص هذا الإنتاج بالكامل للاستخدام في البرازيل، حيث سيوفر ما يقرب من خُمس احتياجات البلاد من الأسمدة على مدار عمر المنجم البالغ 30 عاماً.
ويحتوي الحوض نفسه على رواسب كافية لتمكين البرازيل من تحقيق الاكتفاء الذاتي تقريباً من سماد البوتاس، وتُعد أسمدة البوتاس أساسية في الحفاظ على خصوبة التربة وإنتاجية المحاصيل.
ومن شأن توفير إمدادات مخصصة من البوتاس أن يساعد في حماية محاصيل البرازيل من الصدمات الجيوسياسية مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا في عام 2022، عندما تسبب ارتفاع أسعار البوتاس إلى مستويات قياسية في حالة من الذعر في الحزام الزراعي للبلاد.
في المقابل، سيعطي ذلك البرازيل ميزة في أوقات مثل هذه، حيث تؤدي التوترات بين الولايات المتحدة والصين إلى تغيير مسار التدفقات التجارية وزيادة الطلب على المنتجات الزراعية البرازيلية.
وقال رئيس المشروع في البرازيل، رافائيل بلواز: «لدينا هنا مصدر طبيعي مهم، وعلينا الاستفادة منه إلى أقصى حد». وأضاف بلواز أن شركة التعدين المدرجة في الولايات المتحدة تخطط لإنشاء موقع آخر في «فازيندينا»، بالقرب من نقطة التقاء نهر «ماديرا» بنهر الأمازون.
توريد المحاصيل
وتحتاج البرازيل إلى كميات من الأسمدة أكبر من غيرها من الدول الزراعية الكبرى للحفاظ على إنتاجها الحالي، وعلى الرغم من أن البرازيل تتمتع بمناخ يسمح بالزراعة على مدار العام، إلا أن تربتها سريعة الاستنفاد من العناصر الغذائية. كما أن تربتها الغنية بالطين تعاني صعوبة في الاحتفاظ بالأسمدة أثناء هطول الأمطار الغزيرة.
وأبدى المستثمرون الصينيون بالفعل اهتمامهم بالمشروع، الذي يشمل محطة ميناء وخط كهرباء بطول 102 ميل. وبموجب اتفاقية مبادلة محتملة، قد توافق بكين على شراء البوتاس من المنجم نيابة عن المزارعين البرازيليين مقابل ضمان توريد محاصيلهم المستقبلية مثل فول الصويا والقطن، حسبما ذكرت الشركة.
لكن موقع مشروع «أوتازيس» في ولاية «أمازوناس» يمثل نعمة ونقمة في الوقت نفسه. وتجاور «أمازوناس» ولاية «ماتو جروسو»، مستهلك رئيس للأسمدة وأكبر منتج لفول الصويا في البرازيل، على بعد نحو 400 ميل عبر غابة مطيرة كثيفة.
وتنقل الشاحنات بالفعل محصول «ماتو جروسو» شمالاً إلى البوارج النهرية المتجهة إلى الموانئ على ساحل المحيط الأطلسي البرازيلي. وبمجرد افتتاح المنجم، يمكن أن تعود إلى أراضي «ماتو جروسو» الزراعية محملة بالبوتاس بدلاً من أن تكون فارغة.
وقال الرئيس التنفيذي لـ«بوتاس البرازيل»، مات سيمبسون، إن «الشركة مصدر ضخم للسلع الزراعية إلى الصين، لكنها معرضة لجميع هذه المخاطر الجيوسياسية التي تؤثر في إمداداتها من الأسمدة، لذا فإن وجود مصدر آمن للبوتاس في فنائها الخلفي أمر ضروري».
لكن حفر حفرة عملاقة في واحدة من أكثر المناطق حساسية من الناحية البيئية والثقافية في العالم، ليس بالمهمة السهلة، حسبما قال بلواز، الذي أمضى معظم حياته المهنية في تطوير «كاراجاس»، أكبر منجم للحديد الخام في العالم، الذي يقع أيضاً في منطقة الأمازون.
معارك قضائية
وأمضت شركة «بوتاس البرازيل» العقد الماضي في خوض معارك قضائية ومحاولة كسب تأييد الجميع، من رئيس البلدية المحلي إلى قس القرية، وأخيراً حصلت الشركة على الإذن للمضي قدماً.
وتخطط الشركة للتعدين فقط في المناطق الواقعة خارج أراضي «مورا»، وهو مجتمع من السكان الأصليين تتداخل أراضيه مع أجزاء من رواسب البوتاس. وكان سكان «مورا» في البداية متشككين، فمنذ الحقبة الاستعمارية اضطروا إلى مقاومة الغزوات العنيفة، أولاً من المستعمرين البرتغاليين وأخيراً من عمال مناجم الذهب غير الشرعيين.
واليوم، نحو 35 قرية من أصل 40 في المنطقة تدعم المنجم، بعد أن أقنعتها الشركة بوعودها بمستقبل أفضل، وفقاً لمجلس «مورا» الأصلي. واستثمرت «بوتاس البرازيل» في مدرسة محلية وفريق كرة قدم، ووعدت بمساعدة السكان المحليين على زيادة دخلهم من تربية الأسماك والزراعة الصغيرة والحرف اليدوية.
وفي «أوروكوريتوبا»، المجتمع الساحلي الذي يضم نحو 500 عائلة وهو الأقرب إلى المنجم، أدى سوء الصرف الصحي إلى مشكلات صحية. وينهار الرصيف عندما يفيض النهر، وأصبحت هجمات القراصنة شائعة مع توغل تجار المخدرات في أعماق الأمازون، ولا توجد شرطة في المنطقة، وعلى الرغم من وجود عيادة في البلدة، إلا أن الأطباء لا يزورونها إلا مرة كل أسبوعين.
عن «وول ستريت جورنال»
المجتمعات الأصلية
قال زعيم قبيلة «مورا» في «أوروكوريتوبا»، ألدينيلسون مورايس بافاو: إن المجتمعات الأصلية تريد ما يريده البرازيليون الآخرون. وتساءل: «من لا يريد أن يشرب كوباً من الماء البارد من الثلاجة، أو أن يمتلك سيارة، أو أن ينام في غرفة مكيفة؟».
ويسلط المنجم في الأمازون، الضوء على جوهر المعضلة التي تواجهها البرازيل بشأن مستقبل الغابات المطيرة وسكانها، في الوقت الذي يجتمع فيه قادة العالم في الأمازون لحضور قمة الأمم المتحدة للمناخ.
ويحذّر دعاة حماية البيئة من أن التعدين القانوني قد يُشكل سابقة خطيرة في الأمازون، ما يمهد الطريق لإزالة الغابات والاستيلاء على الأراضي والصراعات الاجتماعية.
. الأسمدة لا تقل أهمية عن الذهب والنفط بالنسبة للبرازيل.
