هي بنت من قطاع غزة، تكاد تغادر شرنقة الطفولة وتحلق كفراشة في حديقة الحياة الغناء كما تحلم أي طفلة في عمرها، وتنطلق نحو الجامعة، لتدرس التخصص الذي طالما أحبته، وحلم جل أطفال غزة هو أن يصبحوا أطباء، كيف لا وهم لم يروا من الحياة إلا الدم والمآسي والدور المحوري الذي يضطلع به ذوو السترات البيضاء في قطاع محاصر مدمر مباد.

اسمها إيمان، وكان يفترض أن تذهب هذه الأيام لتجتاز امتحان التوجيهي (الثانوية العامة) مع بقية أقرانها في غزة، من الجيل الذي وصل إلى هذه المرحلة من الدراسة، والذي يرى أنه جيل محظوظ ليس لأنه اجتاز كل مراحل الدراسة ووصل للتوجيهي، بل لأنه بقي على قيد الحياة.

تحكي إيمان للجزيرة نت أن حلمها كان أن تستيقظ صباح الامتحان، وترتدي لباس المدرسة، وتجهز أقلامها، وتحمل بطاقة هويتها وتتوجه إلى مؤسستها التعليمية، مع صديقاتها، والخوف من أسئلة الامتحان، وظروف الامتحان، يملأ قلوبهن.

حلم بسيط

ويحاولن التغلب على تلك المخاوف بتذكير أنفسهن بأنهن اجتهدن في المذاكرة ومراجعة الدروس منذ اليوم الأول للدراسة، وأن الله لا شك سيفتح بصرهن وبصيرتهن أمام تلك الأوراق البيضاء التي عادة ما ترعب الطلاب الممتحنين، وبشكل خاص المجتهدين المثابرين منهم.

حلم بسيط يبدو عاديا بالنسبة لكل طلاب العالم، إلا في غزة، فقد قررت إسرائيل -وكل من يدعمها- أن يكون حلما مستحيلا، إذ لم تتوقف حرب الإبادة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ففي غزة وحدها، يستشهد طالب التوجيهي قبل أن يستطيع قراءة السؤال الأول من الامتحان.

وهناك على بعد كيلومترات قليلة، في الضفة الغربية المحتلة، والقدس المحتلة، بدأت السبت امتحانات الثانوية العامة، وكشفت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية أن 52 ألفا من الطلبة يجتازون الامتحانات، منهم 50 ألفا داخل الضفة والقدس، و2000 موزعون على 37 دولة.

مدرسة في مخيم جباليا دمرها قصف الاحتلال الإسرائيلي (رويترز)

وفي غزة، عدد الطلاب الذين حرموا من اجتياز امتحان الثانوية العامة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، يبلغ نحو 78 ألفا، أكثر من 39 ألفا منهم العام الماضي فقط، بحسب الأرقام الرسمية.

أما عدد الطلاب الذين لم يقدر لهم أن يستمر حلمهم بانتهاء حرب الإبادة واجتياز التوجيهي، واستشهدوا في مجازر جيش الاحتلال المستمرة بالقطاع المحاصر، فقد وصل لحد الآن إلى نحو 4 آلاف طالب، كان يفترض أن يستيقظوا صبيحة الامتحان والخوف يملأ قلوبهم وهم متوجهون نحو المدارس لاجتياز التوجيهي، ثم يتسلموا أوراق الأسئلة ويقدموا إجاباتهم.

وتزيد وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية أن أكثر من 15 ألفا و379 من تلاميذ مدارس غزة استشهدوا في حرب الإبادة المستمرة، في حين يبلغ عدد الجرحى ومبتوري الأطراف نحو 24 ألفا، علما أن حصيلة الشهداء والجرحى ترتفع يوميا.

وبحسب بيانات الوزارة نفسها، فإن عدد الشهداء من طلبة جامعات غزة يكاد يصل إلى الألفين، بينما يصل عدد الجرحى الذين يعانون من إصابات مختلفة -كثير منها خطر- إلى نحو 2500 مصاب.

النازحون داخل قطاع غزة اتخذوا مما بقي قائما من مدارس الأونروا ملجأ (رويترز)

حكاية الأرقام

ولأن صواريخ جيش الاحتلال الإسرائيلي لا تفرق بين طالب أو مسؤول إداري، فإن عدد الشهداء من الأطر التعليمية والإدارية في قطاع غزة بلغ إلى حدود الثلاثاء 701، مقابل 4 شهداء في الضفة، أما الجرحى فيصل عددهم في القطاع إلى 3015، وفي الضفة 21.

وإلى حدود ظهر الثلاثاء، بلغ عدد شهداء القطاع المحاصر بحسب الأرقام الفلسطينية الرسمية 56 ألفا و991 شهيدا، والجرحى وصل عددهم إلى 138 ألفا و259 جريحا، والمعتقلين بلغ عددهم 18 ألفا و700، والنازحون ناهزوا مليونين.

وفقط في غزة، من الضروري أن تشير إلى التاريخ الدقيق عند الحديث عن الأعداد، فالأرقام التي تبدو ثابتة في مناطق العالم، هي متغيرة دائما في القطاع المحاصر، وبسبب القصف والمجازر المستمرة، ترتفع حصيلة الضحايا في كل ساعة.

الاحتلال الإسرائيلي قصف حتى المدارس التابعة للأونروا التي كانت تضم الآلاف (رويترز)

وحتى بغض النظر عن ذلك، فهذه الأرقام لا تعكس كل الحقيقة، إذ لا يزال آلاف الشهداء، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، تحت أنقاض مباني غزة المهدمة، فلا توجد آليات لرفع الأنقاض واستخراج الشهداء، بل إن مسيّرات الاحتلال وصواريخه، تتربص بكل من يقترب من المباني المهدمة، وتستهدف كل من يتحرك للإنقاذ.

ولم تعرف المدارس والمؤسسات التعليمية -حتى تلك التابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)- مصيرا أفضل من مدارس غزة الحكومية، ويذكر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن عدد المدارس والجامعات المدمرة كليا في غزة بلغ 143، في حين بلغ عدد المدارس والجامعات المدمرة جزئيا 366.

ولا تبدو الصورة مبهجة في الضفة الغربية المحتلة، والوزارة الفلسطينية المختصة تؤكد أن عدد الشهداء من الطلاب وصل إلى 103، والجرحى 691، والمعتقلين 361.

وفي قطاع غزة، يرى العالم أن هدم المستشفيات والمنازل والمؤسسات التعليمية والمساجد والكنائس أمر عادي “في إطار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، مثلما يرى أن تحطم أحلام بنات غزة وأبنائها أمر عادي أيضا، ودائما في إطار حق الدفاع عن النفس.

أما إيمان فتؤكد للجزيرة نت باكية أن أملها -وأقرانها- معلق باحتمال أن تجتاز امتحان التوجيهي يوما ما، وإن كان ما جرى لن ينسى أبدا.

إحدى مدارس الأونروا التي قصفها الاحتلال (رويترز)

امتحان صعب

وفي زمن مضى قبل اندلاع حرب الإبادة، كان يوم ظهور النتائج يوما مشهودا في القطاع المحاصر، إذ تغمر السعادة ليس فقط بيت الناجحين، بل الحي بأكمله، حيث يتوافد الجيران على بيت الناجح فيهنؤون الوالدين، ويشاركونهم الفرحة الغامرة التي لطالما انتظروها على أحر من الجمر.

وحتى الراسبون كانوا يجدون من يحنو عليهم، وكان الناس يواسي بعضهم بعضا، فتدلف هذه الأسرة عند جيرانها وتمسح على قلوبها الحزينة وتروي آمالها بمستقبل أفضل مع العام القادم، وتشحذ همة الراسب وتحثه على التشبث بالأمل والمزيد من الجد والاجتهاد.

أما اليوم، فلا توجد امتحانات توجيهي، ولا نتائج، ولا نجاح، ولا رسوب، والناس يواسي بعضهم بعضا لفقدان العائلة كلها، في المجزرة التي ارتكبت هنا أوهناك أو هنالك، ويفرح بعضهم لبعض إن وجد أحدهم كيس طحين، أو عاد عائلهم من مركز توزيع المساعدات حيا ونجا من رصاص المحتل أو من دهس أقدام الهاربين المجوعين.

إيمان تقول والدموع تجري من مآقيها: “الورقة والقلم والامتحان ربما يحين موعدها مع انتهاء الحرب العام القادم، أو العام الذي يليه، أو الذي يليه، لكن قلبي الذي انكسر اليوم مع بدء امتحانات التوجيهي، هل سيجبر يوما؟”.

وليس فؤاد إيمان وأقرانها وحده الذي انكسر، بل أفئدة كل من ألقى السمع وهو شهيد متابعا بألم حرب إبادة غزة ومآسيها اليومية، وشاهدا على رسوب قادة العالم في امتحان بسيط هو امتحان الإنسانية.

شاركها.
Exit mobile version