بعد أن أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إغلاق الحدود، لم يعد هناك أحد تقريباً من المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية، سوى عدد قليل يسير في الاتجاه الآخر، فبالنسبة لهم انتهى الحلم الأميركي، وهم الآن عائدون إلى ديارهم، إذا تمكنوا بالفعل من الوصول إلى هناك.
الأسرة الصغيرة
بعد ساعة من شروق شمس أحد أيام الشهر الماضي، أمسك والدان فنزويليان، أطفالهما الثلاثة الصغار من أيديهم، وساروا بهم نحو الحدود، كانوا يرتدون ملابس مناسبة للسفر الشاق، أحذية طويلة وحقائب ظهر صغيرة وزجاجات مياه.
وكان الأطفال هادئين، فقد تعودوا على مثل هذه الرحلة خلال اتجاههم للحدود الأميركية من قبل.
وتقول والدتهم، لوسيا: «أتينا إلى هنا منذ خمسة أشهر، وعبرنا الحدود، وقاسينا الوضع على الحدود الأميركية، والمشكلات الأمنية في المكسيك».
وبعد مرور نصف عام على قطعهم مسافة 1700 ميل من منزلهم في فنزويلا إلى المكسيك، فإنهم الآن يقومون بالرحلة نفسها في الاتجاه المعاكس، عبر أميركا الوسطى، حيث تصطاد «الكارتلات» (عصابات المخدرات والجريمة المنظمة) المهاجرين، وتختطفهم وتبتزهم، وهم يسيرون عبر غابة «دارين» في بنما فوق الجثث المتحللة لأولئك الذين قضوا في الطريق.
وتقول لوسيا في ذهول: «أشعر بالرعب حيال ذلك، لكن ليس أمامنا خيار».
وهذه الأسرة جزء من عدد صغير من الأسر، لكنه متزايد من الأشخاص العائدين إلى ديارهم، بعد أن فقدوا الأمل في الوصول إلى الولايات المتحدة.
فبعد ثلاث سنوات سجلت فيها السلطات الأميركية رقماً قياسياً، بلغ سبعة ملايين «مقابلة» للمهاجرين على الحدود الجنوبية، وهو مقياس تقريبي لعدد الأشخاص الذين يحاولون العبور، تعكس قصصهم خيبة الأمل في عدم تمكنهم من دخول أميركا والعيش فيها، وهم يستعدون للعودة إلى ديارهم، حيث بدأت سياسات الحدود الأكثر صرامة في التاريخ تترك بصمتها، وانتشرت الأخبار من نيكاراغوا إلى البرازيل وتشيلي: الولايات المتحدة مغلقة.
عودة طوعية
وفي بداية الشهر الماضي، أفادت المنظمة الدولية للهجرة، التي تنظم رحلات «العودة الطوعية» إلى الوطن، في جميع أنحاء العالم، بارتفاع طلبات المساعدة للعودة إلى أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، مشيرة إلى أنه لا يتم إحصاء العديد من المهاجرين الآخرين، لأنهم يعودون إلى حياتهم القديمة من دون إخطار السلطات.
كما أن البعض الآخر يبدأ عمله من (الصفر) مرة أخرى، بعد أن باع كل شيء لتمويل رحلة الذهاب إلى الولايات المتحدة.
وفي مكتبه في «تاباتشولا»، على بعد 10 أميال من نقطة العبور في «تاليسمان»، قال نائب القنصل الهندوراسي، صامويل جالو، إنه «منذ اليوم التالي لتنصيب ترامب، رتب لإعادة 438 هندوراسياً في هذه المدينة الحدودية إلى ديارهم، في حافلات تدفع كلفتها الحكومة المكسيكية».
وكان العديد من المهاجرين ينتظرون الحصول على موعد للمقابلة مع إدارة الجمارك وأمن الحدود، وهو برنامج رتبته إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، يسمح للمهاجرين بطلب اللجوء للولايات المتحدة، في وقت ومكان محددين، عند نقاط العبور الحدودية الرسمية.
لكن ترامب ألغى البرنامج، وأصدر أمراً تنفيذياً بإغلاق الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، أمام المهاجرين الذين اتهمهم بـ«الغزو»، وأصبحت الحدود الآن مغلقة أمام جميع طالبي اللجوء.
كما أوقف ترامب برنامج «إعادة التوطين» الذي استمر عقوداً من الزمان، والذي يوطن اللاجئين في الولايات المتحدة الذين تم فحصهم في الخارج، وهو القرار الذي تنظر المحاكم الأميركية بشأنه.
سمعة المهاجرين
وفي الأسبوع الماضي، أصدر قاضٍ فيدرالي أمراً قضائياً يأمر ترامب بإلغاء أمر إيقاف البرنامج، ومن غير الواضح ما إذا كانت الإدارة ستمتثل لهذا الأمر القضائي، وتقدر المنظمات الدولية ومحللو الهجرة أن أكثر من 200 ألف مهاجر، معظمهم من غير المكسيكيين، كانوا في طريقهم إلى الولايات المتحدة، عندما ألغى ترامب مواعيد المقابلة مع إدارة الجمارك وأمن الحدود.
وقال نائب القنصل الهندوراسي: «كان الأمر أشبه بصب دلو من الماء البارد على الرأس بالنسبة للهندوراسيين العالقين في (تاباتشولا)».
وأضاف: «لقد أدرك معظمهم أنهم لا يستطيعون دخول الولايات المتحدة، وجاؤوا بأنفسهم هنا للعودة الطوعية»، وأعرب عن أسفه، لتشويه سمعة المهاجرين من قبل ترامب، لكنه يقر بأن الإجراء المتخذ كان فعالاً، مشيراً إلى أن الناس سيفكرون مرات عدة قبل مغادرة بلدانهم الأصلية الآن.
لائحة اتهام
وقال المدير التنفيذي لمركز دراسات الهجرة، مارك كريكوريان، الذي يدعم سياسات ترامب الحدودية، ويدافع عن ضوابط أكثر صرامة على الهجرة، إن «القرارات التي أسفرت عن انخفاض أعداد المهاجرين على الحدود، هي في الواقع لائحة اتهام للسياسات السابقة للرؤساء الأميركيين على مدار السنوات الثلاث الماضية، كان بإمكانهم فعل ذلك في أي وقت، لكنهم اختاروا عدم فعل أي شيء».
وفي العام الماضي، كثفت إدارة بايدن أيضاً عمليات الترحيل بشكل حاد، حيث رحّلت أكثر من ربع مليون شخص من الولايات المتحدة، أي ما يقرب من ضعف عددهم في عام 2023.
وخلال حملته الرئاسية، تعهد ترامب بـ«أكبر ترحيل» في تاريخ الولايات المتحدة، للمهاجرين. ولم تتحقق هذه الحملة بعد، ما أثار إحباط إدارته بشكل واضح، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الوكالة المسؤولة «لاتزال تعمل بالقدر نفسه من الموارد التي كانت لديها من قبل»، كما يقول المسؤول في مجال الحدود والهجرة بمكتب واشنطن الخاص بأميركا اللاتينية، آدم إيزاكسون.
ومع استمرار انخفاض أعداد المهاجرين المتجهين شمالاً إلى الولايات المتحدة، أصبحت الرحلة أكثر عدائية بالنسبة للقلة الذين ينجحون في ذلك.
الحلم الأميركي
وقال مدير مركز هجرة «تاباتشولا»، هيربر بيرموديز، إنه قبل بضعة أشهر كان هنا 1700 شخص، لكن الآن أصبح عددهم 150 شخصاً، حاول معظمهم التوجه شمالاً، وغادرت آخر دفعة منهم في 20 يناير، وعاد بعضهم أدراجه.
وأضاف: «الجيش والعسكريون موجودون هنا منذ 20 يناير، إذا كنت تريد التوجه شمالاً، فسيكون الأمر صعباً عليك.. سيمنعونك».
ولفت إلى أن بعض الفنزويليين والكوبيين والنيكاراغويين، يفكرون في البقاء في المكسيك، بينما يقول معظم الآخرين إنه لا معنى للبقاء هنا، لأنهم جاؤوا من أجل الحلم الأميركي. عن «التايمز» اللندنية
ابتزاز
استعرض الأب، هيمان فاسكيز ميدينا، بجانب النهر الذي يقسّم المكسيك وغواتيمالا، استراتيجيات «الكارتلات» التي تبتز المهاجرين الذين لايزالون يعبرون الحدود.
وقال ميدينا: «كانت هناك فترة غزانا فيها المهاجرون، حيث كانوا يأتون إلى هنا عبر النهر، وكانت (الكارتلات) تنتظرهم، وكانوا يتقاضون منهم 1000 بيزو (ما يعادل 40 جنيهاً إسترلينياً)، للعبور، وإذا لم يحالفهم الحظ، فإنهم يأخذونهم إلى مزرعة قريبة ويحتجزونهم هناك، ويتصلون بعائلاتهم لدفع 700 دولار لإطلاق سراحهم».
مهاجرون في ورطة
مهاجرون يعودون إلى بلدانهم بعد حملة الترحيل التي أطلقها ترامب. من المصدر
في فندق على مشارف المدينة، كانت مجموعة من 20 فيتنامياً يتحدثون في هواتفهم، ويدخنون السجائر، ويشربون «الكوكا كولا». كانوا قد وصلوا قبل 10 أيام على متن رحلة من الصين إلى غواتيمالا، ومن هناك سافروا شمالاً إلى تاباتشولا، وعندها أدركوا أنهم في ورطة.
لا يتحدث أي منهم كلمة واحدة باللغة الإسبانية أو الإنجليزية، بل كانوا يتواصلون مع غيرهم بدلاً من ذلك من خلال تطبيق ترجمة على هواتفهم.
كتب أحدهم، وهو شاب يحمل وشماً على ذراعيه: «لا يمكننا العودة إلى المنزل، أعتقد أنه إذا أغلقت الحدود فسنصبح بلا مأوى».
وكتبت شابة، لديها طفل صغير، جملة على هاتفها ورفعتها: «سأعود الليلة».
حكايات مهاجرين
كانت سونيا (23 عاماً) وشقيقتها إيلين (16 عاماً)، تأملان الوصول إلى نيو أورليانز مع والدتهما وأربعة أقارب آخرين من هندوراس، عندما سمعتا، في 20 يناير، أن موعد المقابلة مع إدارة الجمارك وأمن الحدود الأميركية، المقررة بعد بضعة أيام، قد تم إلغاؤه.
وقالت سونيا: «ظللنا نبكي، كان الأمر مرعباً»، مضيفة: «هناك آخرون غيرنا في تاباتشولا بحاجة إلى الخروج من هذا المأزق.. هناك نساء غانيات يرتدين ثياباً طويلة وينشرن ملابسهن المغسولة، وأسر صينية تأكل المعكرونة على أبواب المطاعم، وشبان كوبيون ينظفون الشوارع».
إيمانويل أمواه (43 عاماً)، وهو مهندس كهربائي من أكرا، يعد أحد القلائل الذين بقوا في المكسيك، حيث يقول إنه فر من غانا بعد تعرضه للاضطهاد، ودفع أكثر من 3500 دولار للوصول إلى هذه النقطة، بعد أن استقل الرحلات الجوية والحافلات، ومشى مسافات طويلة عبر الغابة، وتعرض للسرقة ثلاث مرات في الطريق، بما في ذلك جواز سفره.
ويعتقد أنه لن يتمكن من الوصول إلى الولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك يسعى للحصول على اللجوء في المكسيك، معرباً عن أمله أن تتغير السياسة الأميركية في المستقبل.
. المنظمة الدولية للهجرة أكدت ارتفاع طلبات المساعدة للعودة إلى أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
. ترامب تعهد في حملته الرئاسية بـ«أكبر ترحيل» في تاريخ الولايات المتحدة للمهاجرين.