هرب جدي من الحكم النازي، ووصل إلى الولايات المتحدة عام 1941. وبعد أن خدم في الجيش الأميركي انضم إلى مكتب الخدمات الاستراتيجية، وهي المنظمة الاستخباراتية التي سبقت «سي أي إيه». وبعد نهاية الحرب، درّس العلاقات الدولية في إحدى الجامعات الأميركية، وأنا لم ألتق بجدي لأنه توفي قبل ولادتي، لكنني تأثرت به ودرست في الجامعة وأصبحت أستاذة جامعية في مجال الهندسة المدنية والبيئة منذ عام 2016.
وتنقلت عبر طريق «معبد» بالفرص قدّمته لي أميركا، وحصلت على الشهادة الجامعية وعلى الدكتوراه. في غضون ذلك، حصلت على فرص عظيمة كي أستكشف العالم، أولاً كمتدرب بتمويل من المؤسسة الوطنية للعلوم في اليابان، وكباحث في برنامج البعثات المعروف باسم «فولبرايت» في فرنسا، ولكن لطالما شعرت بأن الولايات المتحدة هي الموطن الأمثل لمسيرتي المهنية. ففي نهاية المطاف، كانت أميركا رائدة عالمياً في مجال العلوم والابتكار، لكن هذه الريادة باتت الآن مهددة على نحو كارثي، نتيجة القرارات السياسية التي يتم اتخاذها في الوطن والتي أثارت الاحتجاجات.
وخلال الشهر الجاري، بدأت الحكومة الفيدرالية إيقاف التمويل عن الباحثين في جامعة «نورث ويسترن» وتراجعت شعبية الرئيس الأميركي دونالد ترامب في استطلاعات الرأي بعد مخاوف واسعة النطاق بشأن التضخم، ومخاوف الركود والحروب التجارية. ولم يكن هذا الهجوم حدثاً منعزلاً، وإنما هو الأخير في سلسلة من الهجمات التي أجبرتني على التشكيك في إيماني الراسخ – منذ فترة طويلة – بالتزام أميركا الثابت بالتقدّم العلمي والقيادة المبتكرة.
وبعد انضمامي إلى جامعة «نورث ويسترن» جرى تكريمي بجائزة «مؤسسة العلوم الوطنية»، وهي تقدير مرموق للغاية للقدرات القيادية في البحث العلمي، لكن في فبراير تم طرد مسؤول البرنامج الذي أشرف على طلبي، من مؤسسة العلوم الوطنية، كارل روكن، إلى جانب آلاف الموظفين الحكوميين الآخرين.
وبعد فصله بفترة وجيزة، قال روكن لمجلة «نيوزويك»: «لا ضمان لاستمرار الولايات المتحدة في ريادتها في الابتكار العلمي، ودون الابتكار ستتدفق المواهب والموارد بشكل طبيعي إلى أماكن أخرى». ويبدو أن هذا التصريح كان نابعاً من بصيرة نافذة على نحو يثير المخاوف.
وخلال الفترة الأولى من إدارة ترامب، ألقت مبادرة الصين بظلالها على التبادل العلمي العالمي، ما شكل انطباعاً بأن الولايات المتحدة لم تعد مكاناً جاذباً للباحثين الأجانب. وأسهم ذلك وغيره من الأفعال في تدفق الباحثين إلى خارج الولايات المتحدة، وأغلق الباب في وجه الكفاءات، والمواهب المهمة التي يحتاجها البلد على نحو كبير.
والآن في إدارة ترامب الثانية، يبدو نهج ترامب شبيهاً بإطلاق سلسلة من السياسات الضارة بالعلوم الأميركية. وتميزت الأشهر الثلاثة الماضية بأزمة، حيث أثار التقليص المقترح في الميزانية، احتمال انخفاض حاد في التمويل المستقبلي، ويعرّض مشاريع الأبحاث الطويلة الأمد، والحياة المهنية لعدد لا يحصى من العلماء، للخطر.
وحتى قبل تجميد المنح والعقود الحالية في جامعة كولومبيا، في السابع من مارس الماضي، بدأت العديد من المؤسسات – بما فيها مؤسستي التي أعمل فيها – في تقليص قبول الطلاب. وقد اضطررنا الآن إلى إلغاء بعض العروض المحدودة التي كان بإمكاننا تقديمها للطلاب المحتملين.
وبات التأثير في جامعاتنا عميقاً. ويفكر الطلاب الخريجون على نحو فعلي، في البحث عن فرص أخرى في الخارج، أو التخلي عن مساراتهم العلمية كلياً. أما الطلاب الذين لم يتخرجوا بعد، فقد باتوا يتخبطون في خياراتهم ويبذلون قصارى جهدهم لإنجاز متطلباتهم المتبقية، تحسباً لإلغاء مشاريعهم بصورة مفاجئة، أو في حالة الطلاب الدوليين، فإنهم يواجهون خطر الترحيل الدائم.
وأصبحت الإجراءات العدوانية ضد الطلبة، والجامعات المرموقة والأميركيين الذين يدافعون عنها، يدقون ناقوس الخطر في المجتمع العلمي، وكل شخص يمكن أن ينتبه لذلك. وبالفعل بدأ أصحاب الثروات وليس الأكاديميين فقط، يستكشفون إمكانية المواطنة في أماكن أخرى، وهو مؤشر صارخ على تراجع الثقة باستقرار أميركا ومستقبلها.
فهل تخيل جدي ذات يوم أميركا التي تُقوّض قوتها الفكرية والإبداعية، وتُنفّر المواهب والكفاءات التي لديها والتي عملت تاريخياً على دفعها نحو النجاح؟. ودون التمويل المستمر، والبيئة المرحبة التي تعج بالمشاركين، تتناقص المساحة المتوافرة لي ولكثير من المهاجرين وأحفادهم من المهاجرين الذين عملوا بجد كي يصلوا إلى هذه البلاد. لقد بذلنا كثيراً من الطاقة والتفكير من أجل بناء هذه الدولة. وإذا اضطررنا إلى مغادرتها، فستكون الخسارة كبيرة، وسيتضاءل رأس المال الفكري والعلمي والريادي، والروح الإبداعية التي لطالما ميزت أميركا.
إريكا هارتمان*
*أستاذة الهندسة المدنية في جامعة «نورث ويسترن»
عن «ذي هيل»
. خلال الشهر الجاري بدأت الحكومة الفيدرالية إيقاف التمويل عن الباحثين في جامعة «نورث ويسترن».