في مصنع لإعادة التدوير بالعاصمة البرازيلية برازيليا، يزيّن جدار قسم فرز «البلاستيك» وجه امرأة سمراء تُدعى ماريا كارولينا دي خيسوس، وهي كاتبة لمذكرات باللغة البرتغالية لاقت شهرة واسعة، ترصد فيها تجربتها كجامعة قمامة في ساو باولو خلال خمسينات القرن الماضي.
وتُرجمت مذكراتها، التي نُشرت بعنوان «غرفة الخردة»، إلى اللغة الإنجليزية، وحققت مبيعات عالية لأشهر عدة، حيث سلّطت الضوء على الفقر، والإهمال الحكومي، والطاقة الفكرية التي كُبتت بفعل عدم المساواة في أميركا اللاتينية.
واليوم، وبعد أكثر من ستة عقود، تستلهم مديرة أكبر مركز لإعادة التدوير في البرازيل وواحد من أكبرها عالمياً، إيلين سوزا، عبارة شهيرة من تلك المذكرات: «الجوع من صنع أولئك الذين لا يجوعون».
تبلغ سوزا من العمر 34 عاماً، وقد عرفت الجوع في سن مبكرة، فبدأت العمل في بيع الحلوى على الأرصفة وهي في الثامنة من عمرها، وعندما بلغت الـ12 تخلّت عن خوفها من الخيول، وركبت أول عربة لجمع القمامة إلى جانب جدتها، وبدأت جمع العلب المعدنية والمواد القابلة لإعادة التدوير في شوارع برازيليا.
وتتذكر سوزا تلك الأيام قائلة: «كنت أخرج من المدرسة وأحرص على حماية جدتي من النفايات وزحمة السير»، مضيفة: «كنا نتجول أنا وجدتي معاً في أنحاء برازيليا، ونجمع المواد القابلة لإعادة التدوير، خصوصاً علب الألمنيوم».
صورة للواقع
أُنشئ المركز الذي تديره سوزا عام 2006، ويضم 22 تعاونية تغطي مساحة 818 ألف قدم مربعة، ويعالج العاملون فيه نحو 12 ألف طن من النفايات سنوياً.
ومع ذلك تفقد المنطقة الفيدرالية، وهي المنطقة المركزية الغربية للعاصمة البرازيلية، نحو 60% من المواد القابلة لإعادة التدوير بسبب سوء الإدارة.
وقالت سوزا: «يصل إلينا شهرياً أكثر من 600 طن من النفايات في ظروف صعبة»، موضحة أن اختلاط النفايات بالمواد العضوية يُعقد عملية الفرز، لكنها أكدت أنه على الرغم من التحديات تُحقق التعاونيات المتخصصة التي تجمع النفايات من المنازل نسبة إعادة تدوير تتجاوز 80%.
وتمثل سوزا صورة الواقع المستمر في البرازيل، حيث تشكل النساء أكثر من 70% من العاملين في جمع وإعادة تدوير النفايات الصلبة، كالورق والكرتون والعلب والزجاجات البلاستيكية والزجاج، بالإضافة إلى أنواع أخرى من النفايات، مثل المعادن والخشب والبطاريات.
ويُقدر أن 80% من هؤلاء النساء من أصول إفريقية، حيث تعتبر سوزا أن «إعادة التدوير قضية عرقية».
مصدر دخل أساسي
ويعتمد أكثر من 800 ألف شخص في البرازيل على هذا القطاع كمصدر دخل أساسي، وهم مسؤولون عن جمع ما يقرب من ثلثي المواد التي تدخل في عمليات إعادة التدوير في البلاد، بينما لا يسهم جمع النفايات المنزلي إلا بنحو الثلث، بحسب الجمعية البرازيلية للنفايات.
ويعمل أكثر من 1000 شخص في المركز الذي تديره سوزا، من بينهم والدتها وجدتها.
وبفضل جهودها، أصبحت سوزا صوتاً بارزاً في مجال البيئة وحقوق العمال، ما جذب انتباه الساسة، حيث شاركت في تدريبات ومبادرات بيئية، وجلسات حوار مع رؤساء بلديات وحكام محليين.
وقالت سوزا: «في البرازيل يُتوقع من جامعي القمامة أن يُظهروا العنف حين يطالبون بحقوقهم وتحسين ظروفهم، أما أنا فقد أدركت أن الدبلوماسية يجب أن تكون شاملة».
ويعترف القانون البرازيلي بدور جامعي القمامة في منظومة إدارة النفايات، ويسعى لدمجهم اجتماعياً واقتصادياً، ومع ذلك لايزال التطبيق على الأرض محدوداً، والتهميش مستمراً، وفقاً لمنظمة العمل الدولية.
واقع صعب
وتقر سوزا بواقع العاملين الصعب، إذ لا يتجاوز الدخل الشهري لبعضهم 250 دولاراً، وتقول: «حين تعود لمنزلك وتجد طفلاً جائعاً أو قريباً مريضاً، يصعب ألا تناضل. من يطلب السلام غالباً ما تكون معدته ممتلئة».
وتردَّد صدى كلمات سوزا في جميع أنحاء البلاد، حتى وصل إلى رئيس الجمهورية، ففي عام 2021، خلال حملته الانتخابية، زار الرئيس لولا دا سيلفا مركز النفايات، ووقف إلى جانب العمال، وهي لحظة تتذكرها سوزا بوضوح، عندما كانت واقفة عند خط الفصل حيث تُلقي الشاحنات القمامة، قائلة: «كان لولا هنا، بيننا، ليوم كامل».
في تلك الزيارة اغتنمت سوزا فرصة استراحة القهوة، وطلبت من الرئيس التدخل لإلغاء ضرائب الأراضي المفروضة على مراكز التدوير خلال جائحة «كورونا» في ظل أزمة معيشية خانقة.
وتقول: «أظن أنه أنهى الأمر بمكالمة واحدة، وفكرت في أنني لن أراه مرة أخرى في حياتي»، لكن تلك اللحظة كانت بداية مرحلة جديدة في مسيرتها النضالية. عن «إيل باييس»
«الجوع معلم»
تخطط إيلين سوزا للتنحي عن منصبها كمديرة أكبر مركز لإعادة التدوير في البرازيل، خلال النصف الأول من العام الجاري.
وعندما سُئلت عن أعظم إنجازين لها خلال توليها المنصب، أجابت بكل تواضع: «دار الحضانة والمطبخ المجتمعي، فهاتان المبادرتان هما ما كنت أتمناه في صغري، أن يحصل الأهل على فرصة للعمل، وهم مطمئنون إلى أن أبناءهم بأيدٍ أمينة، يتلقون الغذاء والرعاية».
هذه الإنجازات لا تلبي فقط احتياجات العاملين، بل تجسد درساً من كاتبة المذكرات، ماريا كارولينا دي خيسوس، التي قالت: «الجوع معلم»، وتختم سوزا بقولها: «لكن الكتب تعلم بشكل أكثر جدارة».
استقلالية
ساعدت صناعة إعادة تدوير النفايات في البرازيل الكثير من النساء على الاستقلال عن عائلاتهن.
وكانت شقيقة جامعة النفايات الشهيرة، ماريا كارولينا دي خيسوس، أحد الأمثلة، فقد كانت أول أنثى تترأس اتحاد العاملين في مجال إعادة التدوير في برازيليا.
وقالت: «وصلت إلى هذا المنصب بسبب ما كانت عليه شقيقتي»، لكن نبرتها تزداد حدة عندما تُسأل إن كان أيّ من أطفالها السبعة يعمل في المصنع، فتقول: «أحياناً، عندما يشتكون أشعر برغبة في إحضارهم، ليروا الجهد المبذول»، وتُضيف: «لا أحد يريد أن يجد أي طفل بقايا طعام، أو جلوداً بشرية أو حيوانية مختلطة بعمله».
من جهتها، تعتقد إيلين سوزا أن التعامل مع المخلفات العضوية أمر أساسي لضمان صحة وسلامة جامعي النفايات، إذ يوجه هذا المبدأ عملها في المصنع.
وقالت سوزا خلال مقابلة أجرتها معها صحيفة «إيل باييس» الإسبانية في مكتبها وهي محاطة بالجوائز والتذكارات: «عندما أدركتُ أنه من خلال معالجة النفايات العضوية يُمكنني معالجة النفايات الصلبة، أدركتُ سرّ عملي».
وبفضل توجيهات سوزا، أصبح لدى أكثر من نصف أحياء برازيليا، المدينة التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، نظام جمع انتقائي، إضافة إلى نظام لجمع النفايات من الشوارع في جميع أنحاء المدينة.
وشاح الرئيس
الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. أ.ف.ب
استمر النضال من أجل الانتخابات الأخيرة، التي جرت عام 2022 في البرازيل، حتى اللحظات الأخيرة.
وتمكن الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، من التغلب على سلفه جايير بولسونارو، بعد أن حصد 51% من أصوات الناخبين.
وجرت العادة أن يُسلم الرئيس المنتهية ولايته وشاح الرئاسة لخليفته كرمز للانتقال الديمقراطي، لكن بولسونارو شكك في النتائج، ورفض المشاركة في الحفل احتجاجاً على ذلك.
ومن دون تحديد اسم محدد للحدث، اختار فريق نقل السلطة بقيادة السيدة الأولى الحالية، جانجا دا سيلفا، إجراءً غير مسبوق، تمثل في تسليم وشاح الرئاسة بأيدي الشعب.
ورافق الرئيس سبعة أشخاص إلى وسط القصر الرئاسي من جميع الأعراق والمهن، هم: زعيم من السكان الأصليين، وعامل في مجال التعدين، ومعلم مدرسة، وطباخ، وطفل، وشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، وامرأة برازيلية من أصل إفريقي، (مديرة مركز إعادة التدوير، إيلين سوزا).
وبضفائرها وقميصها الذي يحمل شعار الحركة الوطنية لعمال جمع النفايات البرازيليين، قدمت سوزا الوشاح للرئيس لولا دا سيلفا.
وقبل أيام من حفل تنصيبه دعا المصور الشخصي للرئيس سوزا على نحو سري إلى اجتماع بها، وتتذكر ذلك قائلة: «اتصل بي وطلب مني أن أكون حذرة، لكنني أخبرت والدتي على الفور بذلك»، وتضيف: «حتى اللحظة الأخيرة حاولوا إيقافي، بسبب تهديدات بالاعتداء على لولا دا سيلفا، لكنني قلت: إذا صعدت إلى هناك وحدث شيء ما فسأرمي بنفسي أمامه.. في ذلك اليوم أردت أن أمثل الديمقراطية».
وانتشرت صور سوزا بعد الحفل في جميع المواقع الإخبارية الرئيسة، وتقول ضاحكةً: «أتخيل أنه منذ وفاة جامعة القمامة الشهيرة، ماريا كارولينا دي خيسوس، لم يظهر أي عامل أسود في مجال إعادة التدوير في هذا العدد من المقابلات»، غير أن هذا الفرح لم يدم طويلاً، فقد شهد يوم الثامن من يناير 2022 اقتحام أنصار بولسونارو مبنى الكونغرس البرازيلي، وتلقّت تهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعترف قائلةً: «اختبأتُ لأنني شعرتُ بضرورة حماية عائلتي».
. المركز الذي تديره سوزا أنشئ عام 2006، ويضم 22 تعاونية تغطي مساحة 818 ألف قدم مربعة، ويعالج نحو 12 ألف طن من النفايات سنوياً.
. القانون البرازيلي يعترف بدور جامعي القمامة في منظومة إدارة النفايات، ويسعى لدمجهم اجتماعياً واقتصادياً.
. 800 ألف شخص في البرازيل يعتمدون على العمل في جمع النفايات كمصدر أساسي للدخل.