حين نفكر بكلمة “رصيد”، يخطر ببالنا فوراً رصيدنا من المال وآخر رقم وصل إليه حسابنا البنكي. ارتبطت هذه الكلمة في أذهاننا بالمال والثروة، ونسي معظمنا أن هناك أرصدة خارج البنك لا تقل عنها أهمية. أرصدة مضمونة الربح ودائمة التراكم، لا تنقص ولا يمكن لأحد سرقتها أو اختلاسها منك. أرصدة عمادها حب الناس، ووفائهم لك، وشعورهم تجاهك بالعرفان والاحترام وضرورة رد الجميل. هذا النوع من الأرصدة هو الذي يجعل الناس يتنافسون على خدمتك ومساعدتك عند اللزوم. هي مشاعر الثقة والسمعة الحسنة التي يمنحك بموجبها التجار والبنوك قروضاً وتسهيلات مالية. هي مشاعر الود والولاء التي ترتد إليك عاجلاً أم آجلاً بشكل فرص وعروض وخدمات ومبادرات لرد الجميل.

بين أفراد عائلتي رجلاً ثرياً يصرف على عدد كبير من الأيتام والأرامل والأسر الفقيرة ــ وما نجهله أكثر. ذات يوم قال عنه والدي كلاماً رائعاً نبهني إلى أنه يملك أرصدة أعظم من المال لم يفكر فيها معظمنا. قال: “هذا الرجل لا يخشى الفقر لأن الفقراء مستعدون لبيع ملابسهم من أجله”.

وحين عملت في إمارة المدينة المنورة، لاحظت شعبية الأمير مقرن وتعلق الناس به وحبهم له لدرجة لا تخطئها العين. لم أحسده يوماً على مال أو منصب بل على دعوات العجائز له بالخير والبركة (حين يستمع إليهن كل صباح) ودعوات أصحاب الحاجات من الرجال (والشيبان) الذين يخرجون من مجلسه بعد الظهر وقد حل مشاكلهم وقضى حاجاتهم.

هذه النوعية من الرجال ــ التي يدعو لها الناس صباح مساء ــ لا تخشى فقراً ولا قهراً ولا خصومة كونها تملك في قلوب الناس رصيداً مسبقاً من المحبة والإحسان والفعل الجميل.

ورغم أن مقالي هذا بعيد عن السياسة، تنطبق هذه المعادلة على أحداث سياسية وعسكرية كثيرة عبر التاريخ. فقد سبق أن كتبت مقالاً عن عظماء وقادة فتحوا دولاً وبلداناً برصيدهم من المحبة والولاء والسمعة الحسنة – وبدون سلاح أو جنود تقريباً. فالسعوديون مثلاً يعرفون أن الملك عبد العزيز استعاد الرياض ليس بكثرة الجنود وقوة السلاح، بل بمشاعر الود والوفاء التي يحملها أهل الرياض. لم يترددوا في الوقوف معه حين سمعوا بوصوله وكانوا على استعداد لنصرته حتى لو أتى وحيداً ــ وهو ما دعا أحد المؤرخين الفرنسيين للقول: “ظهرت الدولة السعودية لثالث مرة لأن رصيدها كان كبيراً في قلوب الناس”.

هذه الحالة (استعادة الرياض) تثبت أن شعبية الحاكم وذكراه الطيبة هي خير نصير وأقوى ضامن لبقائه في سدة الحكم. تثبت أن لمشاعر الوفاء دوراً كبيراً ــ وإن كان غير محسوب ــ في تماسك الدول وشرعنة الأنظمة وبقاء الزعماء!

واستعادة الرياض حالة تكررت مع قادة قلائل استعادوا حكمهم لوحدهم، ومعتمدين فقط على شعبيتهم ورصيدهم في قلوب الناس. خذ كمثال آخر نابليون بونابرت الذي هرب من جزيرة إلبا ودخل باريس لاستعادة حكمه دون جنود. تقدم وحيداً باتجاه الجيش الذي بعثه ملك فرنسا لإيقافه وقال للجنود: “أنا ذاهب إلى باريس، ومن يريد منكم أن يقتل قائده السابق فليطعني من الخلف”. وبعد لحظات ساد فيها الصمت، هلل الجنود “عاش الإمبراطور” ورجعوا تحت قيادته إلى باريس.

أيضاً هناك عبدالرحمن الداخل الذي نجا من مجازر الأمويين، وهرب وحيداً من جيوش العباسيين، ودخل الأندلس دون رجال وعتاد ليؤسس فيها الدولة الأموية. أطلق عليه أبو جعفر المنصور لقب “صقر قريش” كونه سئل جلسائه ذات يوم: “أتدرون من هو صقر قريش؟” فقالوا (من باب التملق) أمير المؤمنين الذي حسم الأدواء، وأباد الأعداء. قال: “ما صنعتم شيئًا”. قالوا: “فمعاوية”. قال: “ولا هذا”. قالوا: “فعبد الملك بن مروان”. قال: “لا”. قالوا: “فمن يا أمير المؤمنين؟” قال: “عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلص من الأسنة وظُبات السيوف فعبر القفر، وركب البحر، حتى دخل وحيداً بلداً أعجميًا وأقام ملكًا بعد انقطاعه”.

أيضاً هناك الأمير فيصل بن تركي (جد الملك عبد العزيز) الذي هرب من سجنه في مصر مع أولاده وأخوه جلوي، فرحب به أهل نجد وعينوه ملكاً عليهم رغم قدومه بلا جيش أو عتاد أو قوة.

ورغم أنك لن تضطر يوماً لتأسيس دولة، لا يجب أن تفوتك هذه المعادلة وتفكر جدياً برفع رصيدك من المحبة والوفاء في قلوب الناس. وكما تشغل بالك دائماً في رفع أرصدتك المالية، فكر أيضاً برفع أرصدتك (غير المالية) لأن ما تملكه داخل البنك أرقام قابلة للنقصان، في حين أن رصيدك في قلوب الناس، وسمعتك الحسنة بينهم، والذكرى التي تتركها بعد رحيلك، هي ثروتك الحقيقية التي تخدمك، وترفع منزلتك، وترجع إليك خلال حياتك وإلى أبنائك بعد رحيلك.

… ولاحظ رحمك الله؛

كل هذا ولم نتحدث عن رصيدك في السماء.. حيث الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف الله لمن يشاء…

شاركها.