في كل موسم من مواسم الخير، يتجدد مشهد الحرمين الشريفين كأنه لوحة حيّة ترسمها العناية الإلهية، وتعتني بتفاصيلها مؤسسات مخلصة تعمل بصمت وإتقان. ومن بين هذه المؤسسات، تبرز الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بوصفها أحد النماذج السعودية الملهمة التي نقلت مفهوم «الخدمة» من أداء الواجب إلى صناعة التجربة الإيمانية المتكاملة.
ما تقوم به الهيئة، اليوم، لا يمكن اختزاله في إدارة الحشود أو تنظيم الدخول والخروج، بل هو تخطيط إستراتيجي لتجربة ضيف الرحمن، تُبنى على أركان الراحة، والسلامة، والانسيابية، والتقنية الذكية. وفي عام 2025 تميّزت الهيئة بحصدها جائزة الحكومة الرقمية لأفضل مبادرة في الشمولية الرقمية عن مشروع «التنقّل الموحّد»؛ وهو إنجاز يؤكد أن الخدمات لم تعد عشوائية أو متفرقة، بل باتت منظومة رقمية متكاملة تُدار بعقلية المستقبل.
ومن المبادرات التي لاقت إعجاب الزائرين، خدمة العربات الإلكترونية داخل المسجد الحرام، التي أطلقتها الهيئة عبر منصة «التنقّل الموحّدة»، حيث تتيح المنصة حجز العربات الكهربائية والعادية مسبقاً وبسهولة، وتوفّر أكثر من ثلاثة عشر موقعاً للتشغيل داخل أروقة الحرم، إلى جانب فريق ميداني يوجّه المعتمرين بلغات متعددة. ولأن الحرم قبلة لكل الأجناس والأعمار، فإن الهيئة جعلت الخدمة شاملة لكبار السن وذوي الإعاقة، لتتحول رحلة الطواف والسعي من معاناة جسدية إلى رحلة روحانية آمنة ومريحة، تجمع بين العتق من التعب والسمو بالإيمان.
وفي سياق تحسين التجربة الميدانية، أطلقت الهيئة أربعة مراكز لحفظ الأمتعة ضمن مشروع متكامل يراعي سهولة الحركة داخل المسجد الحرام. وأبرز ما يميز هذه الخدمة أن الزائر لم يعد مضطراً للذهاب بنفسه إلى مراكز الإيداع، إذ وفّرت الهيئة مكاتب أمامية بجانب أبواب العمرة الرئيسية يتولى فيها موظفو خدمة العملاء استلام الأمتعة، وتزويد الزائر بسوار ذكي يحمل بيانات الحقيبة والموقع، ليتم نقلها بأمان إلى مركز الحفظ نيابة عنه. هذه الخدمة تجسّد فهماً عميقاً لمعنى «الضيافة الذكية» التي تراعي أدق احتياجات الزوار وتختصر عليهم الوقت والجهد.
كما وجدت الهيئة أن من أكثر النقاط التي ينخفض فيها قياس الرضا لدى المعتمرين -بحسب تقارير مركز أداء- هي صعوبة وصولهم بعد الانتهاء من أداء نسكهم إلى محلات العناية بالشعر، فقامت بابتكار حل ميداني مريح تمثّل في عربات متنقلة مجهّزة بفرق متخصصة للتحلل من النُسك أمام باب المروة، تقدّم خدماتها للمعتمرين دون مقابل. هذه الخطوة تعكس عمق فهم الهيئة لتفاصيل تجربة الزائر، وحرصها على معالجة التحديات الصغيرة التي تصنع فرقاً كبيراً في رضا ضيف الرحمن وانطباعه العام.
وما يميّز الهيئة اليوم أنها لم تعد تكتفي بإدارة المرافق، بل أصبحت تُدير التجربة بكاملها؛ من لحظة وصول الزائر حتى مغادرته. كل خطوة، وكل تفصيلة، وكل مبادرة تُترجم رؤية السعودية 2030 التي تجعل خدمة ضيوف الرحمن شرفاً ومسؤولية وابتكاراً. في مشهد الحرمين، لا تمر لحظة دون أن تشهد تطوراً جديداً؛ عربات ذكية تتحرك بانسيابية، خدمات رقمية متصلة، مراكز حفظ متقدمة، عربات للتحلل أمام المروة، وسلوك مؤسسي يليق بمكانة البلد الحرام.
إن ما تصنعه هيئة شؤون الحرمين، اليوم، ليس مجرد تطوير خدمات أو تحسين إجراءات، بل هو صياغة جديدة لتجربة الإيمان ذاتها؛ تجربة تجمع بين الطمأنينة والتنظيم، بين التقنية والروح، وبين العناية بالمكان والرعاية بالإنسان. فكل مبادرة تُطلقها الهيئة تنبع من إدراكٍ أن ضيف الرحمن لا يبحث فقط عن أداء المناسك، بل عن رحلة استثنائية يعيش فيها معنى القرب من الله وسط بيئة تليق بقدسية الحرم ومكانته.
ومع استمرار هذا النهج المتوازن بين الأصالة والتحديث، تمضي الهيئة بخطى واثقة نحو مستقبلٍ يجعل من الحرمين الشريفين نموذجاً عالمياً في إدارة المقدسات، ومختبراً حياً لأفضل الممارسات في الضيافة الروحية والخدمة الذكية. فحيث يلتقي الإيمان بالتقنية، تتجلّى روح الرؤية السعودية في أبهى صورها: أن تكون خدمة ضيوف الرحمن شرفاً لا ينتهي، آلة لا تنقطع، وواجباً يتجدد كل يوم.
