7/5/2025–|آخر تحديث: 7/5/202504:03 م (توقيت مكة)
شهدت إسرائيل تصعيدا غير مسبوق في أزمة تجنيد اليهود الأرثوذكس (الحريديم) في الجيش الإسرائيلي، بعد أن فجر رئيس أركان الجيش إيال زامير قنبلة بإصداره تعليمات جديدة أمس لتوسيع نطاق التجنيد ليشمل 50 ألفا من الحريديم.
يأتي ذلك بالإضافة إلى الأمر السابق الذي تم اتخاذه بتجنيد 20 ألفا، وهي خطوة رأى فيها كثيرون تهديدا مباشرا لاستقرا الائتلاف الحاكم بقيادة بنيامين نتنياهو.
وفي تقريرين منفصلين، سلطت صحيفة معاريف الضوء على هذه الأزمة، التي كشفت عن فجوة متفاقمة بين الاحتياجات العسكرية الملحّة التي يواجهها جيش الاحتلال من جهة، وبين الاعتبارات السياسية والدينية التي تمسك بخيوط السلطة، من جهة أخرى.
قرار وتداعيات
فقد نقل المراسل العسكري للصحيفة آفي أشكنازي عن مصادر رفيعة في الجيش الإسرائيلي قولها إن القرار الجديد الصادر عن رئيس الأركان جاء بعد تقييم داخلي خلص إلى أن الجيش تجاوز “الخط الأحمر” من حيث نقص القوى البشرية، وخاصة في صفوف الجنود النظاميين.
وأفادت المعطيات بأن الجيش يعاني من عجز يتجاوز 10 آلاف جندي، من بينهم 7 آلاف في الوحدات القتالية، إلى جانب 3 آلاف في وحدات الدعم اللوجستي والميداني على خطوط المواجهة المختلفة.
واعتبر أشكنازي أن ما يحدث لا يمكن وصفه إلا بأنه “تحول جذري في السياسة العسكرية”، إذ قرر الجيش البدء بإرسال إشعارات التجنيد الأولية والثانوية إلى كل فتى يبلغ من العمر 16 عاما ونصف من المنتمين للتيار الحريدي، وهي خطوة غير مسبوقة تكسر التفاهمات السياسية والدينية التي سادت لعقود، والتي أعفت الحريديم من الخدمة العسكرية بموجب اتفاقيات تاريخية منذ قيام الدولة.
وأضاف أن كل من يتخلف عن الاستجابة لهذه الدعوات سيُعتبر من الناحية القانونية “هاربا من الخدمة”، وهذا يعني أيضا احتمال فرض عقوبات جنائية أو تقييدات مدنية عليه، في مشهد يُنذر بتصعيد داخلي خطير.
وأبرز التقرير أيضا أن تداعيات النقص في القوى البشرية لا تقتصر فقط على الجانب الكمي، بل تؤثر بشكل مباشر على نوعية الاستعداد القتالي ومستوى الجاهزية العامة للجيش.
فقد اضطر الجيش إلى إيقاف تدريبات ميدانية أساسية بسبب الحاجة إلى نقل الألوية المنتشرة على الجبهات الشمالية (لبنان وسوريا) والضفة الغربية إلى ساحة غزة، ما انعكس سلبا على القدرة على صيانة القوات وتجهيزها وتدريبها بشكل منتظم.
إنهاك مستمر
وأشار أشكنازي إلى أن هذا النقص أدى إلى إنهاك مستمر في صفوف الجنود، سواء كانوا نظاميين أو احتياطيين، مع تراجع في الحدة القتالية وارتفاع معدلات الأعطال، سواء في المعدات أو في الأداء العملياتي، وهو ما يرفع منسوب القلق داخل قيادة الجيش.
وشرح أشكنازي هذا الحال في تقريره، قائلا: “يدرك الجيش إرهاق جنود الاحتياط الذين يجدون صعوبة في العودة إلى روتين المدرسة والعمل والحياة الزوجية وحياة الأبوة والأمومة، وهذا في النهاية يقوض بنية المجتمع الإسرائيلي، وسنرى نتائج العبء على مجموعة سكانية واحدة في السنوات القادمة، مع أننا نرى الآن فقط النتائج الفورية المحدودة”.
وأضاف: “كل جندي في الجيش يشعر بهذه الأحمال بشكل جيد جدا، مثل الذهاب في إجازة مرة واحدة بعد أسابيع طويلة من الخدمة والتأهب التشغيلي بما يؤثر سلبا على يقظتهم ويزيد من الحوادث التشغيلية وغيرها من المشاكل”.
وأكد نقلا عن مصادره العسكرية أنه “مع زيادة العبء على الجنود، فإن جهود إعادة تأهيلهم في المجتمع الإسرائيلي ستستغرق سنوات أكثر، وسيكون هناك أيضا أولئك الذين لن يعودوا إلى دورة الحياة التي خططوا لها قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)”.
وأفاد أشكنازي أن رسالة رئيس الأركان كانت واضحة ومباشرة: “الجيش لم يعد قادرا على تحمّل استمرار الإعفاء الجماعي للحريديم”، مؤكدا أن الوضع الأمني المعقد يتطلب مشاركة الجميع، من دون استثناء، في حين وصفه بـ”الجهد الوطني للبقاء”.
ونقل عن مصادره العسكرية تحذيرها من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى تآكل في الردع العسكري الإسرائيلي وقد يهدد فعالية العمليات الجارية في غزة وعلى الحدود الشمالية.
كما أشار إلى أن رئيس الأركان لم يتشاور مسبقا مع القيادة السياسية قبل اتخاذ هذه الخطوة، الأمر الذي اعتبره بعض الوزراء “انقلابا ناعما” على التفاهمات السياسية السابقة، ما زاد من حدة التوتر بين المؤسستين العسكرية والسياسية.
موقف متصاعد
من جانبها، تناولت المراسلة السياسية للصحيفة آنا براسكي في تقرير آخر الموقف المتصاعد داخل المعسكر الحريدي، والذي عبّر عن غضب شديد ورفض قاطع للخطوة التي اتخذها الجيش، واعتبرها محاولة للتهرب من المسؤولية السياسية عبر “رمي الكرة في ملعب المؤسسة العسكرية والكنيست”، وفق ما نقلته عن قيادات من حزبي شاس ويهدوت هتوراه الذين يمثلان الجمهور الحريدي.
وأوضحت براسكي أن قادة هذه الأحزاب وجّهوا إنذارا لنتنياهو، مفاده أن عدم تمرير قانون يشرعن الإعفاء من الخدمة للحريديم وفق الشروط المتفق عليها مسبقا، سيؤدي إلى تفجير الائتلاف الحاكم وإمكانية الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
ونقلت المراسلة عن مسؤول حريدي بارز قوله: “لا يمكن السماح بأن يُمس بأسس الهوية اليهودية للبلاد عبر فرض التجنيد الإجباري على من يكرسون حياتهم لتوراة إسرائيل. ما يحدث هو مناورة تهدف إلى تحجيم دورنا وتقليص تأثيرنا السياسي”.
وفي محاولة لاحتواء الغضب داخل الائتلاف، عقدت لجنة الخارجية والأمن في الكنيست جلسات عاجلة خلال الأيام الأخيرة. وأعلن رئيس اللجنة، النائب يولي إدلشتاين، عن نيته تقديم صيغة جديدة لقانون التجنيد خلال أسبوعين، مؤكدا أنها ستكون “شاملة وفعالة” ولن تحتوي على “ثغرات قانونية” تتيح التحايل على الخدمة.
وفي منشور على صفحته في فيسبوك، كتب إدلشتاين: “أمامنا فرصة تاريخية لتصحيح خطأ تاريخي. يجب أن نعيد التوازن بين الواجبات والحقوق، وأن نصيغ قانونا يعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها”.
لكن براسكي نقلت عن مصادر حريدية قولها إن التعديلات المقترحة من جانب إدلشتاين “غير مقبولة على الإطلاق”، وإنها “محاولة لتجميل الصورة إعلاميا”، معتبرة أن المسودة الجديدة تهدف عمليا إلى “نسف الإعفاء الكامل أو تقليصه حتى حدوده الدنيا”، الأمر الذي قد يُفجر مواجهة شاملة بين المؤسسة الدينية والدولة.
اجتماع حاسم
وبحسب ما أوردت براسكي، فإن اجتماعا رباعيا حاسما سيُعقد خلال الأيام المقبلة في مكتب رئيس الحكومة، يضم كلا من نتنياهو، ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، ورئيس حزب شاس أرييه درعي، ورئيس لجنة الخارجية والدفاع يولي إدلشتاين، في محاولة لتقريب وجهات النظر والتوصل إلى حل قانوني يُجنّب الائتلاف الانهيار.
لكن المؤشرات حتى الآن تدل على أن الهوة لا تزال واسعة بين ما يطالب به الجيش من جهة، وما ترفضه الأحزاب الدينية من جهة أخرى، ما يعني أن أزمة تجنيد الحريديم قد تتحوّل إلى أخطر تحدّ داخلي يواجهه الائتلاف الحالي منذ بدء الحرب في غزة.
وتكشف الأزمة عن صراع جوهري بين احتياجات الأمن القومي الإسرائيلي، وبين المعتقدات الدينية الراسخة داخل فئة واسعة من المجتمع اليهودي الأرثوذكسي. فبينما يرى الجيش أن الوضع الراهن يشكل خطرا وجوديا يتطلب انخراط الجميع في الخدمة العسكرية، تتمسك القيادة الحريدية بأن دراسة التوراة لا تقل أهمية عن الدفاع العسكري، وترفض الخضوع لإملاءات ترى أنها “تناقض الوعد التاريخي الذي قامت عليه دولة اليهود”.