• كثيراً ما يتصدر سؤال الواجهة، من أين جاءت الشاعرة مشاعل إلى الشّعر، ومن أين جاء الشِّعر إليها؟
•• إن المرء لا يختار أن يكون شاعراً.. ولكن يقع عليه الاختيار بين أن يصبح شاعراً جيداً أو العكس. يحتاج الشعر إلى الاشتغال.. إلى الإمساك بالمعنى والانتباه للعمق وتطويع اللغة.. «أكتب لأعيش، لأحيا، لأتنفّس لأنقذ حياتي من اللاجدوى».. هكذا تقول عائشة الحاج، وأنا أكتب لأتوازن.. لأخرج من دائرة التوقيت وأسبح في الأبدية.. أكتب لأعيدني إليّ.. وأترجم روحي..
أكتب لأفهم.. لأتعلم.. لإلغاء عبثية الحياة بتوثيق اللحظة والتغني بها.. وجوهر القصيدة الدّهشة.
• بمن تأثرتِ، خصوصاً أن شاعريتكِ تدير إليها نبض ووعي الذائقة؟
•• هناك الكثير من المؤثرات التي تخلق روح الكتابة والشاعرية لدى الإنسان.. بدءاً من الطفولة الى البيئة المحيطة، القراءات الأولى، والجراحات الأولى، كذلك معرفة الإنسان ووعيه ما هما إلا نتاج تراكمات معرفية وشعورية تترك أثرها فيه لتصنع منه ما هو عليه مستقبلاً أو حاضراً؛ لذلك لا أستطيع أن أحصر مؤثراً معيناً كان هو الوحيد الذي يقف خلف إنتاجي الأدبي.
• ماذا عن البيئة وشاعريتها؟
•• طفولتي المبكرة في مكة لها دور كبير بالتأكيد.. التكوين الجغرافي لمكة وجبالها قرب العائلات المختلفة من بعضها البعض.. التنوع الثقافي والاجتماعي الذي تزخر به مكة؛ كونها مدينة دينية والاهتمام بالتاريخ والشّعر والأدب في منزلي، كان حاضراً.. وكل هذا شكّل جزءاً من حبي للشّعر واهتماماتي..
والدتي معلمة التاريخ التي تحب الشّعر وتتغنى به حتى في عتابها وحنانها ومناداتها..
ووالدي معلم الرياضيات الذي كان دافعاً حقيقياً لكتابة الشّعر؛ رغبة في إبهاره ولفت انتباهه لعلو ذائقته الأدبية وانتقائيته. كل هذه العوامل كانت جزءاً من الأسباب التي صنعت روحي كشاعرة.
• هل من تحديات واجهت مشوارك؟ وكيف كسرتِ حاجز التردد والارتياب؟
•• كان التحدي الأول والدائم هو مواجهة مخاوفي من الكتابة.. من الانكشاف.. ماذا لو تحررت من عقدة الذنب من فكرة الكمال.. من قلق الخطأ.. تذكرت عبارة لنكيتيا جيل تقول فيها:
«وقبل أن تسألها لماذا بقيت، انظر للطريقة التي يرفض بها طائرٌ سجين، أحياناً أن يغادر.. ولو كان باب القفص مفتوحاً على مصراعيه.. وتناديه بلطف محاولاً إخراجه من سجنه لتطلق سراحه.. ربما حينها ستفهم».
المبدع في معركة دائمة مع القلق والرغبة في أن يُرى وأن يختفي تماماً في ذات الوقت.. هذه الحساسية هي ما يجعلك متصلاً بعالم الهشاشة الذي يصنع الفن.
• لمن تدين شاعريتك بالفضل؟
•• للحياة.. بكل تقلباتها وتجاربها نحن نتاج تجاربنا وتراكمات خبراتنا.. نقسم ذواتنا الحية في ما نكتبه من نصوص.. ونتناقص بقدر ذلك، ولكن ليس كل ما نكتبه يكون نتاج حوادث حقيقية تمسنا بقدر ما نراها ونلمسها في حيوات الآخرين. الشاعر متصل بالشعور؛ لذلك عليه أن يصطاد التفاصيل.. أن يذوب في الانتباه.. وأن يلبس الحرية وتلبسه.. لا يجوز لشاعر يريد أن يكون عظيماً وضع قيد على الخيال.. ولا لخيال يريد أن يكون عظيماً رفض الحرية..
• بين الشعر العامودي والتفعيلي والنثري، أين تجدين نفسك؟
•• باعتباري أكتب العامودي والنثر والتفعيلة وأرى أن جميعها شّعر، ولا أتقيد بلون معين وأنافح دونه، بل أستمتع بما يخطه الشعراء الآخرون من القصائد النثرية وغيرها، كما يقول إيف بونفوا: «إن الشعر ليس استعمالاً للغة، بل لعله جنون في قلب اللغة»..
وهذا يريد من الكاتب أن يكون متسعاً، وأنا أحب هذه الحرية؛ لذلك أجد نفسي في اللحظة التي تكتبني القصيدة بأي شكل شاءت.
• متى تكتبين النص؟ وهل يكتب دفعة واحدة؟
•• غالباً تختار نصوصي وقتها.. لا أستطيع إجبار النص على الخروج؛ لأنه لن يكون كما أردت له.. المسافة بين ما نريد قوله وما نريده حقيقة تتسع بمثل هذا الإجبار؛ لذلك تختار النصوص وقتها تبعاً للشعور والتجربة، والرغبة في قول شيء ما.. وأما بالنسبة إلى الاشتغال على النص ومراجعته فهذا بطبيعة الحال يأتي بعد أن يُكتب وترسم حدوده كطبيعة الكتابة في كل شأن.
• من تنافس مشاعل عبدالله؟ ومن ينافسها؟
•• لا يوجد لدي رغبة في منافسة أحد، ولا أرى بأن الشّعر مضمار للمنافسة والسباق، بل هو صوتك الداخلي ورؤاك ورغبتك في ملاحقة الضوء.. يبحث الشاعر عن ذاته في معركته مع الوجود، يريد لنفسه موقعاً داخل ذاته وداخل العالم.
• لماذا يكاد يكون حضورك محدوداً؟
•• هناك تقصير من قبلي ومن قبل الهيئات المعنية بالأدب، أما ما كان منّي فهو أنّي ربما أكثر من يهرب من مثل هذه الفعاليات والمشاركات.. وأنا أعرف قدر أهميتها وأثرها على الآخر.. لكن فكرة قراءة قصائدي حساسة جداً وتربكني محاولة مشاركة الآخرين ما أكتبه بصوت عالٍ.. ما أزال أحاول الخروج من منطقة الراحة والتواصل مع القراء بروح أكثر ثباتاً، ولا نختلف أن الإلقاء وتماهي الشاعر مع النص يمنحه روحاً تجعل المتلقي يلمس الشعور ويتصل بالفكرة بشكل أسرع وربما أعمق منه عند قراءته.. لكنه لا يجعل منه معياراً يحدّد جمالية الشعر.. نقدياً كذلك. ولإيماني كذلك بأن الطريقة التقليدية في إلقاء الشّعر وإيصاله لم تعد تجذب الجمهور المتعطش إلى الإبداع والا نبهار مع تسارع الوقت وتقدم العصر..
•هل خططتِ لمشروع شعري يمتد عقوداً؟
•• الشّعر روح تلبس صاحبها، وهويته التي يستمد منها ثباته.. يصاحبني في عملي في المجال السينمائي كاتبة سيناريو، وفي هوايتي فنانة تشكيلية، وفي حياتي الشخصية معلمةً وصديقةً وأختاً؛ لذلك يقال إن الشاعر يتوقف عن الكتابة عندما ينتصر الواقع على السحر في روحه.
يقول الشاعر مالارميه: هذا هو هاجس الشعراء جميعهم.. ربما يرى بعض من الشعراء أن التوقّف عن الكتابة الشعرية هو مأزق أو أزمة ما، وربما يراه آخرون جزءاً من الكتابة نفسها.
كما فعل بول فاليري الذي صمت نحو 15 عاماً وعاد مُجدَّداً ليكتب قصيدته الرائعة الطويلة (بارك الشابة)..
• كم عدد إصداراتك؟
•• لدي ديوان بعنوان خارج الوقت، وآخر بصدد نشره قريباً.
• هل نال شيء منها التكريم أو الجوائز؟
•• ديواني الأول فاز بجائزة أبو القاسم الشابي في تونس.
• ممَ أنت قلقة فنيّاً ووجدانياً؟
•• نستطيع أن نقول إن القلق هو قربان القصيدة.. القلق هو المحرك الأساسي للإبداع.. المطمئن لا يكتب.. والفن عموماً، ومن ضمنه الشعر، يحاكي العوالم الحسية.. لا أستطيع تذكر يوم لم يؤثر الشّعر به على روحي وصناعة يومي.. وتحقيق توازني الداخلي.. وسيظل كفن يخدم حاجة الإنسان الدائمة للتعبير عن ذاته ومحاولة تغيير واقعه والترويج لقضاياه ومبادئه. لن يفقد الشعر أهميته طالما استمرت حاجة الانسان الطبيعية للتعبير، لكنه كما أرى قد يتخذ أشكالاً أخرى تبعاً لطبيعة الحياة والجو العام المصاحب للقصيدة، إذ أصبحت القصيدة تدور غالباً حول الذات والفلسفة ومحاولة تفكيك وتحليل وبناء الأفكار.. ومحاولة قراءة العالم بعدسة متعددة الأبعاد وكيفية هزيمة الإنسان لغربته الداخلية وإيجاد معنى لا يهدم كينونته.. لا يستطيع الإنسان أن يحيا دون أن يحركه الشعور ويلمس الشعر روحه..
• ما أثر جمال الشاعرة الحسي على نصها وعلى جمهورها ونقادها؟
•• أعتقد أن الجمال سلطة بكل أنواعه، ولكن عندما نتحدث عن الكتابة، فالفكرة هي التي ستظل خالدة، وكيف تمَّت صياغتها.
• أي قصيدة أثيرة عندك وعليك؟
•• كل نص له روحه وموقفه ورغبته الخاصة في أن يكون أثيراً؛ لذلك لا أستطيع التفضيل، وبعض النصوص للأصدقاء الشعراء تلمسني ربما أكثر مما كتبت.
• لو لم تكوني شاعرة، ماذا يمكن أن تكوني؟ ولماذا؟
•• شاعرة؛ لأن الشعراء يعيدون صياغة التاريخ.. ولأن للشعر قدرته في تصوير الواقع وتحليله وإعادة رسم الأحداث وتوثيقها..
النص الشعري ما هو إلا انعكاس لروح الشاعر أفكاره ثقافته.. النظارة التي يفسر من خلالها الحياة، ويحاول بها ترجمة ما يستطيع فهمه.. ولأن الشاعر يعيش بقلب مفتوح متعطش للحرية
وهذا ما أريد أن أكونه دائماً.. أن أحيا بقلب نابض وشعور يقظ.
• ماذا عن الطفولة، والبيت، والدراسة والتخصص؟
•• الطفولة هي البيت الأول للمشاعر.. وما خلقته المواقف الصغيرة في تصوراتي عن الحياة وروحي وهدوئي وتمردي على حد سواء.. للطفولة تأثير المشرط على أرواحنا.. مما يجعل العودة إلى ما قبل ذلك الحدث الذي أوصلنا لما نحن عليه الآن مستحيلاً..
الموسيقى، الألعاب، وحتى تلك التهويدات التي تسبق النوم كانت تخيط كل ما يتعلق بأرواحنا.
• ما القصيدة التي تحلمين بكتابتها؟
•• القصيدة التي تشبهني؛ لأن الشاعر في نهاية الأمر معني بذاته؛ لذلك ما زلت أحلم بكتابة شيء يشبهني تماماً بكل النساء اللواتي يعشن داخلي.. وهذا ما يجعل من الأمر حلماً.
• ما الذي تظلين تبحثين عنه وتتمنين أن لا تجديه؟
•• البحث عن الكمال.. كمال الرؤية.. كمال الفهم.. كمال الصورة المنعكسة عن ذواتنا وعنا،
وأعتقد أن ما أؤمن به حقيقة أن الجمال هو نحن بارتباكاتنا الداخلية بكركباتنا بأخطائنا بإنسانيتنا.. لا وجود للكمال المطلق، ولا للعمق المطلق.